hhhh

4587

1-بناء الإنسان الصالح


أول ما يهدف إليه الإسلام هو بناء "الإنسان الصالح" الجدير بأن يكون خليفة الله في الأرض، والذي كرمه الله أفضل تكريم، وخلقه في أحسن تقويم، وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعا، فهو إنسان اكتملت فيه خصائص الإنسانية، وارتفع عن حضيض الحيوانية البهيمية أو السبعية، وهذا الإنسان الصالح هو أساس الأسرة الصالحة، والمجتمع الصالح، والأمة الصالحة.

وإنسان الإسلام هو ـ قبل أي اعتبار ـ إنسان إيمان وعقيدة، قد اتضحت فكرته عن نفسه، وعن العالم من حوله، فهو ليس نباتا (شيطانيا) كنبات البرية، ظهر وحده من غير زارع زرعه، ولا الكون من حوله برز وحده من غير خالق خلقه ومدبر دبره، بل هو يؤمن أن له ربا خلقه فسواه فعدله، وعلمه البيان، ومنحه العقل والإرادة، وأرسل إليه الرسل، وأنزل له الكتب، وأقام عليه الحجة، وعرفه الغاية، والطريق.
كما أن هذا العالم البديع وراءه خالق عظيم، خلق كل شيء فقدره تقديرا، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، ولكن الذي خلقه سيفنيه، ويبدل به عالما آخر، هو عالم الخلود، فيه توفى كل نفس ما كسبت، وتجزى بما عملت، وهم لا يظلمون.
(وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا، ذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار، أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، أم نجعل المتقين كالفجار)؟
(ليس بأمانيكم ولا بأماني أهل الكتاب، من يعمل سوءا يجزى به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا).
وبهذا عاش الإنسان المسلم مؤمنا بالله تعالى، مؤمنا برسالاته، بجميع كتبه ورسله، وآخرها رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، مؤمنا بلقائه تعالى وحسابه وعدالة جزائه، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما، وعنت الوجوه للحي القيوم، وقد خاب من حمل ظلما، ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما).
إن هذا الإيمان هو أول ما يميز الإنسان المسلم، فهو مؤمن بعقيدة جوهرها التوحيد، ومعنى التوحيد: أنه لا خالق إلا الله، ولا معبود إلا الله، فهو يعني توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، ولا يغني أحدهما عن الآخر، فقد كان مشركو العرب يؤمنون بأن الله هو وحده خالق السموات والأرض، كما حكى عنهم القرآن: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله).
ومع هذا الإقرار بتوحيد الربوبية، رأيناهم يعبدون مع الله آلهة أخرى، بغير سلطان ولا برهان، إلا دعاوى فارغة، مثل قولهم: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله).
(وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى).
والإسلام جاء دعوة تحريرية كبرى، لتحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله تعالى: من عبوديته للطبيعة، وللأشياء، في الأرض كانت أو في السماء، ومن عبوديته للحيوان، ومن عبوديته للشيطان، ومن عبوديته للإنسان، سواء كان ملكا أم كاهنا، بل من عبوديته لنفسه وهواه، فلا يعبد إلا الله، ولا يشرك به شيئا. ولهذا كان يبعث النبي صلى الله عليه وسلم برسائله إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الإسلام ويختم رسائله إليهم بهذه الآية الكريمة: (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله).

وإنسان الإسلام كذلك، إنسان نسك وعبادة، فهو يعلم أن الكون من حوله خلق له، أما هو فخلق لله وحده، وبهذا أدرك غاية حياته، وسر وجوده.
فعبادة الله وحده لا شريك له، هي غاية غاياته، فلها خلق، ومن أجلها سخر له ما في السموات وما في الأرض. يقول الله تعالى:
(وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرازق ذو القوة المتين).
إن المخلوقات يخدم بعضها بعضا ـ كل جنس يخدم ما كان أعلى منه مرتبة، فالجماد يخدم النبات، والنبات يخدم الحيوان، والحيوان يخدم الإنسان، فمن يخدم الإنسان؟
الإنسان لم يخلق إلا لخدمة ربه وبارئه، أي لعبادته، وعبادته وحده، دون إشراك أحد أو شيء من خلقه في الأرض، أو في السماء.
بهذا بعث الله الرسل على مختلف العصور والأزمان: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت).
(وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه: أنه لا إله إلا أنا فاعبدون).
ومن هنا يحب الإنسان المسلم متعبدا لله تعالى، مؤتمرا بأمره، منتهيا عما نهى عنه، جاعلا خشيته وتقواه نصب عينه: (إنما يتقبل الله من المتقين).
وتتمثل العبادة أول ما تتمثل في إقامة الشعائر الكبرى التي فرضها الإسلام وجعلها من أركانه العظام، من الصلاة والصيام والزكاة والحج، ثم ما يكملها من الذكر والدعاء وتلاوة القرآن، والتسبيح والتهليل والتكبير.
فالمسلم يذكر ربه في كل حين، وعلى أية حال، في أكله وشربه، وعند نومه وعند يقظته، وفي إصباحه وإمسائه، ولدى مدخله ومخرجه، ويوم سفره وأوبته، وعند لبسه ثوبه، أو ركوبه مركبته، حتى عند ممارسته الغريزية مع أهله لا ينسى في هذه المواقف وغيرها أن يذكر الله تعالى شأن أولى الألباب: (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم).
وإذا كان أكثر أتباع الأديان لا يعبدون ربهم إلا مرة في كل أسبوع، فإن المسلم على موعد مع الله كل يوم خمس مرات، في صلواته المفروضة، ثم هو مع الله دائما بالنوافل والذكر والدعاء والاستغفار: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا).
على أن المسلم يستطيع أن يجعل حياته كلها عبادة إذا التزم منهج الله، وقصد بعمله ـ حتى الدنيوي ـ وجه الله تعالى.

والإنسان المسلم ـ إلى جوار كونه إنسان إيمان وعقيدة، وإنسان نسك وعبادة ـ هو أيضا إنسان خلق وفضيلة، تتجسم فيه الطهارة بكل معانيها، وتتمثل فيه فضائل العدل والرحمة والإيثار، قد اتخذ من رسول الله (أسوة حسنة) وقد بعثه الله (ليتمم مكارم الأخلاق)، ووصفه بأنه (على خلق عظيم)، فهو يقتبس من نوره ويهتدي بهداه، ويتخلق بخلقه، ليكون أقرب إليه يوم القيامة. فهو إنسان قد انتصر على نوازعه وشهواته، حين زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والمراقبة، حتى انتقلت من (النفس الأمارة بالسوء) إلى (النفس اللوامة)، وبهذا استحقت (الفلاح) حين انتصرت فيها التقوى على الفجور، كما قال تعالى: (ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها).
لقد علمنا الإسلام أن الخلق والفضيلة من لوازم العقيدة، وتمام الإيمان، كما أنهما ثمرة لازمة للعبادة الحقة، وإذا لم تثمر العبادة في الخلق والسلوك دل ذلك على أنها عبادة مدخولة.
والقرآن الكريم يحدثنا عن الإيمان مجسدا في أخلاق وفضائل، كما في قوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون، والذين هم لفروجهم حافظون… والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون..)
والرسول الكريم يحدثنا عن الإيمان كذلك في صورة أخلاق وأعمال وفضائل، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليصل رحمه، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت".
"الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى من الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".
وقد ألف الإمام البيهقي كتاب كبيرا سماه "الجامع لشعب الإيمان".
يشمل كل الفضائل وأعمال الخير التي دعا إليها الإسلام، واعتبرها كلها من شعب الإيمان، كما دل على ذلك الحديث.
والعبادات الشعائرية المفروضة من شأنها أن تثمر زكاة النفس، بالفضائل، وطهارتها من الرذائل، كما أشار إلى ذلك القرآن، إذ يقول في شأن الصلاة: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)، وفي شأن الزكاة: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)، وفي شأن الصيام: (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).
وفي الحديث عند البخاري: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
"رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر".
وخلق المسلم لا يتجزأ، فهو ليس كخلق اليهودي الذي يحرم الربا في تعامله مع مثله، ويستحله في تعامله مع الآخرين، وليس كخلق إنسان الغرب الاستعماري الذي يتعامل داخل أوطانه بأخلاق وفضائل مثالية، فإذا تعامل مع البلاد الأخرى سرق وظلم، وطغى واستكبر.
المسلم يعدل مع من يحب ومن يكره، مع القريب الأقرب، ومع العدو الأبعد، (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين).
(ولا يجر منكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله).

والمسلم ـ فضلا عن التزامه بالخلق والفضيلة ـ هو ملتزم كذلك بمنهج رباني، بشريعة محكمة، مفروضة عليه من ربه، أحلت له الحلال، وحرمت عليه الحرام، وحددت له الواجبات، وبينت له الحقوق، وفصلت له كل ما يحتاج إليه، فلم تدعه هملا، ولم تتركه نهبا للفلسفات والأنظمة البشرية المتضاربة، تميل به عن يمين وشمال، بل رسمت له (الصراط المستقيم) وألزمته بالسير فيه، مراعية ما يعرض عليه من ضرورات، فأباحت له بعض ما حظرت عليه بقدر ما توجب الضرورة وحجمها وزمنها، من غير بغي ولا عدوان، كما قال تعالى في شأن الأطعمة المحرمة: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه، إن الله غفور رحيم)
المسلم مقيد في حياته كلها بما أحل الله له، فهو ليس (سائبا) يفعل (ما يشتهي)، بل هو منضبط بفعل (ما ينبغي).
فإذا أخذنا الأكل مثلا، فهو لا يأكل الميتة ولا الدم ولا لحم الخنزير، ولا يأكل من اللحم إلا ما ذبح ذبحا شرعيا، أما ما لم يذبح، أو (ذبح على النصب) أو (أهل لغير الله به) فلا يحل للمسلم أكله.
وكذلك لا يحل له أن يأكل طعاما غصب من صاحبه الشرعي، أو سرق أو أخذ بالباطل، كما لا يحل له أن يأكل طعام امرئ بغير طيب نفس منه.
والوعيد في ذلك شديد، فكل جسد نبت من سحت، فالنار أولى به.
وكذلك لا يحل للمسلم أن يتناول أي طعام أو أي مادة يضره تناولها: لأنه ليس ملك نفسه، والإضرار بنفسه حرام، لأنه قتل بطئ لها، والله تعالى يقول: (ولا تقتلوا أنفسكم، إن الله كان بكم رحيما).
والرسول يقول: "لا ضرر ولا ضرار" أي لا تضروا أنفسكم، ولا تضاروا غيركم.
ومن هنا كان تناول (التبغ) وملحقاته، بعد أن ثبت ضرره علما وطبا وواقعا ـ حراما بلا شك، ومن باب أولى: المخدرات التي هي بمنزلة السموم، فالتحريم في الإسلام يتبع الخبث والضرر: (يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث).
كما أن المسلم لا يشرب الخمر، حفاظا على عقله وجسمه وخلقه، ويعتبرها أم الخبائث ورجسا من عمل الشيطان، وكبيرة منافية للإيمان، كما في الحديث الصحيح: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن".
وحتى المأكل الحلال، والمشرب الحلال، لا يتناوله المسلم في آنية ذهب ولا فضة، فإن الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب، أو الفضة، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم، كما صح بذلك الحديث.
وهو حين يأكل أو يشرب ما يحل له، لا يتجاوز الحد المناسب، فيدخل في دائرة الإسراف المحرم، كما قال تعالى: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين).
والمسلم في علاقاته الأسرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية مقيد بأحكام الشريعة الإلهية، فهو يتزوج أو يطلق، ويبيع ويشتري، ويستأجر ويؤجر ويكتسب وينفق، ويتملك ويهب، ويرث ويورث، ويحكم ويحتكم، ويسالم ويحارب، وفقا لأوامر الشريعة ونواهيها، واقتضائها وتخييرها: "فما أحل الله فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو".

والإنسان المسلم فوق ذلك: إنسان دعوة وجهاد، أعني أنه لا يقف عند صلاح نفسه، بل يبذل جهده لإصلاح غيره، ودعوة الآخرين إلى ما هداه الله إليه.
ومن هنا وجدنا سورة العصر ـ على وجازتها ـ تشترط لنجاة الإنسان من خسر الدنيا والآخرة ـ إلى جوار الإيمان وعمل الصالحات ـ التواصي بالحق والتواصي بالصبر: (والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).
ومعنى التواصي هنا: أن يوصي غيره بالحق ويدعوه إليه، وأن يتقبل من غيره الوصية بالحق كذلك، فكل مسلم موص، وموصى بالحق في الوقت ذاته، وهذا هو معنى التواصي.
فالمسلم بطبيعته داعية، لأنه يوقن أن رسالته للعالم كله، وللزمن كله، وللحياة كلها، فهو يسعى لمد شعاعها، وتعميم رحمتها على العالم: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
وكما أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث رحمة للعالمين، كما علمنا القرآن، وكما قال عن نفسه: "إنما أنا رحمة مهداة"، فأمته مبعوثة كذلك بما بعثه الله به، وكل من اتبعه فهو داعية إلى الله، مقتديا به، كما قال تعالى مخاطبا له: (قل: هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة، أنا ومن اتبعني)، فكل من اتبعه عليه الصلاة والسلام فهو داع إلى الله على بصيرة، أو هكذا يجب أن يكون.
وهكذا قال الصحابي ربعي بن عامر لرستم قائد الفرس: إن الله (ابتعثنا) لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
والمسلم يبدأ دعوته في محيطه الخاص أولا، أي في أهله وأولاده وأسرته، كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة)، (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها، لا نسألك رزقا، نحن نرزقك، والعاقبة للتقوى).
ثم يمتد بدعوته في المجتمع من حوله، داعيا إلى الخير، محذرا من الشر آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، فلا يجوز له أن يقف المتفرج، أو غير المبالي، من شيوع المنكر، أو ضياع المعروف، بل لا بد أن يتقدم ليغير المنكر إن استطاع بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.
ولا يفهم من (التغيير بالقلب) هنا: أنه (موقف سلبي) بل هو (غليان من الداخل) في مواجهة منكر غالب وراءه قوى ظالمة تسنده وتحميه. وهذا الغليان لا بد أن يتجسد يوما في عمل إيجابي له أهميته في تغيير المجتمع.
المهم ألا يتخذ المنكر صفة الشرعية بطول السكوت عنه، فهذا هو الذي يجلب لعنة الله على المجتمعات، ويحل بها سخطه ونقمته: (لعن الذي كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون).
حتى لو كان الذين يقترفون المنكر، أو يحمونه، من أولي الأمر، وأصحاب الشأن، ينبغي للمسلم ألا يضعف في مواجهتهم بالأمر والنهي، بالحكمة والموعظة الحسنة، مستندا إلى قوة الحق الذي معه، وإلى اليقين بأن رزقه بيد الله لا يملك أحد أن ينقصه، وإن أجله عند الله مسمى، لا يستأخر عنه ساعة ولا يستقدم.
وهذا هو الجهاد الداخلي الذي اعتبره النبي العظيم في القمة من أنواع الجهاد حين سئل عن أفضل الجهاد، فقال: "كلمة حق عند سلطان جائر".
وقال في الحديث الذي رواه ابن مسعود: "ما من نبي بعثه الله قلبي إلا كان له حواريون".
ولا يقف المسلم عند حد الجهاد الداخلي بالدعوة والأمر والنهي، بل هو يجاهد بلسانه، ونفسه وماله، لتصل كلمة الله إلى الناس كافة، كما جاء في الحديث: "جاهدوا المشركين بأيديكم، وألسنتكم وأموالكم".
واعتبر القرآن الكريم الجهاد بتبليغ الدعوة من الجهاد الكبير، حين قال لرسوله: (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به ـ أي بالقرآن ـ جهادا كبيرا).
وهذه الآية مكية، أي قبل أن يشرع القتال في المدينة بسنوات.
وإذا كانت الأديان الأرضية، والأديان السماوية المحرفة، تسعى لنشر دعوتها في العالم، فأولى بدين الله الخالد والخاتم أن يجد من ينشره في الآفاق حتى يتحقق وعد الله: (ليظهره على الدين كله)، (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).

وإذا كان إنسان الإسلام إنسان إيمان وعقيدة، فهو ـ في الوقت نفسه ـ إنسان عقل وعلم، إذ لا تعارض في الإسلام بين الإيمان والعقل، ولا بين الدين والعلم.
الإيمان الإسلامي لا يقول للمسلم ما تقوله أديان أخرى: اعتقد وأنت أعمى! بل يدعوه أن يكون على (بينة من ربه) وأن يؤسس عقيدته على (اليقين) لا على (الظن) وأن يعتمد على (البرهان) لا على (التقليد).
والقرآن ينادي أصحاب الملل والنحل المختلفة بقوله: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)، (قل: هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟ إن تتبعون إلا الظن، وإن أنتم إلا تخرصون).
ويدمغ القرآن المشركين بقوله: (إن يتبعون إلا الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا).
وكما أنكر القرآن اتباع الظن في الموضع الذي يتطلب اليقين، أنكر كذلك اتباع الهوى والعواطف في مقام يوجب الموضوعية الخالصة. فقال تعالى عن عباد الأصنام: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى).
وإلى جوار ذلك سن حملة شديدة العنف على التقليد الأعمى للآخرين، الذي يجعل الإنسان يلغي عقله، ويفكر بعقل غيره، سواء كان هذا الغير يتمثل في الآباء والأجداد المعظمين عنده، أو في السادة والكبراء ذوي النفوذ والسلطان الذي قد يبلغ درجة التأله في الأرض، أو في جمهور الناس وغوغائهم الذين اختلت موازينهم.
وفي نقد التقليد للآباء جاءت آيات كثيرة، منها في القرآن المكي قوله تعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون، قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم)؟!
وفي القرآن المدني: (وإذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا: حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، أولو كان أباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون)؟!
وفي نقد التقليد للكبراء والسادة، تقرأ في القرآن المكي، وهو يصور بعض مشاهد الآخرة ومواقف المعذبين في الجحيم بعضهم من بعض: الإتباع والمتبوعين، الأذناب والرؤوس: (كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم: ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار، قال: لكل ضعف ولكن لا تعلمون، وقالت أولاهم لأخراهم: فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون).
وهذا التلاوم تكرر كثيرا في السور المكية.
وفي القرآن المدني نقرأ قوله تعالى: (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا، ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب، وقال الذين اتبعوا: لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا، كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم، وما هم بخارجين من النار).
وفي نقد التقليد للعامة، والاندفاع وراء الجمهور، ولو كانوا على باطل، جاء الحديث النبوي يحذر من هذه التبعية فيقول: "لا يكن أحدكم إمعه، فيقول: أنا مع الناس إن أحسنوا أحسنت، وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا ألا تظلموا" رواه الترمذي وحسنه.
ومن ناحية أخرى يحث القرآن بأبلغ الأساليب على النظر والتفكير والتدبر، سواء في آيات الله الكونية المنظورة، أم في آياته التنزيلية المقروءة والمسموعة، وبعبارة أخرى في المصحف الصامت وهو الكون! والمصحف الناطق وهو القرآن.
اقرأ إن شئت هذه الآيات: (قل: انظروا ماذا في السموات والأرض).
(أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء).
(وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم، أفلا تبصرون)؟
(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).
(قل: إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا لله مثنى وفرادى، ثم تتفكروا).
ومعنى قيامهم لله أن يتجردوا من الأهواء، ويبحثوا عن الحقيقة مخلصين.
وإنما قال: "مثنى وفرادى" ليكونوا بمنأى عن تأثير العقل الجمعي وإيحاءاته، وإنما يفكر المرء مع رفيقه بهدوء، أو مع نفسه حين يخلوا إليها كأنها رفيق يناجيه.
ويقول تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا).
(كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته، وليتذكر أولو الألباب).
والقرآن هو الكتاب المقدس الوحيد الذي أمر بالنظر والتفكر والعقل والتدبر، كما أمر بالعبادة والتنسك، فلا غرو أن يعتبر التفكر "فريضة إسلامية" كما قال العقاد ـ رحمه الله ـ، فهذا ما تنادى به الأدلة، ولا غرو أن يعتبر إمام كالغزالي (التفكر) أحد (المنجيات العشرة) الكبرى في كتابه الشهير "إحياء علوم الدين"، وفيه يروى عن السلف: تفكر ساعة خير من قيام ليلة، بل قال بعضهم: تفكر ساعة خير من عبادة سنة!
والعقل عند المسلمين ليس نقيضا للوحي، بل هو الدليل على صدقه، ولهذا يعتبر المحققون من علماء المسلمين: أن العقل أساس النقل، إذ لولا العقل ما عرفنا وجود الله تعالى، ولا أقمنا الأدلة عليه، وأبطلنا شبهات الدهريين والملاحدة… ولولا العقل كذلك ما قام البرهان على إمكان الوحي ووقوعه، وصدق الأنبياء والرسل، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم.
ولكن للعقل مجالا لا ينبغي أن يتجاوزه، وإلا تاه في أودية الضلال، وهو مجال هذه المخلوقات وما أكثرها، وأوسع مداها، وأما ذات الله تعالى وما يتعلق بجلال شأنه فليس للعقل سلطان عليه، والأولى له التسليم للوحي فيه، والتلقي عنه، بعد أن يثبت هو صحته، فالعقل هو الذي يقيم الدليل على صدق الوحي، ثم يعزل بعد ذلك نفسه ـ كما قال الغزالي ـ ويأخذ عنه ما لا يدخل في اختصاصه من شئون الألوهية وعوالم الغيب، وأحوال الآخرة، كما قال تعالى: (ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي، وما أتيتم من العلم إلا قليلا).
وقد روى في حديث: "تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا".
وبهذا التسليم يوفر الإنسان طاقته العقلية للبحث فيما هو أجدى عليه وأليق به.
وعلى المسلم أن يطلب كل علم نافع مع أهله، فطلب العلم فريضة، منه ما هو فريضة عينية، ومنه ما هو فريضة كفائية على مجموع الأمة، سواء كان علما دينيا أم دنيويا، مما يحتاج إليه الفرد أو المجتمع.
وإنما العلم بالتعليم، وقد منح الله الإنسان أدوات العلم، فلا يجوز له أن يعطلها: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون).
والقرآن يذم الكفار، ويجعلهم حطب جهنم لتعطيلهم هذه الأدوات: (لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل).
وينهى القرآن عن اتباع ما ليس للإنسان دليل عليه: (ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا).
ودليل الماديات هو الحس، ولهذا أنكر القرآن على الذين زعموا الملائكة إناثا بقوله: (أشهدوا خلقهم).
ودليل العقليات هو الفكر: (قل: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين).
ودليل التاريخيات ونحوها هو النقل الصادق: (ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين).
ودليل الغيبيات والشرعيات هو الوحي: (قل: الله أذن لكم أم على الله تفترون)؟، (نبئوني بعلم إن كنتم صادقين).
وعلى هذه المبادئ أقام الإنسان المسلم حضارة شامخة جمعت بين العلم والإيمان، وتركت آثارها في حياة الإنسان علوما ومعارف شتى، سادت الدنيا قرونا من الزمان.

والإنسان المسلم ليس راهبا في دير، بل هو إنسان عمل وإنتاج للحياة، يعطيها كما يأخذ منها، ويعد عمارتها هدفا من أهداف خلق الإنسان واستخلافه في الأرض، كما قال تعالى على لسان صالح لقومه: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)، ومعنى (استعمركم) أي طلب إليكم عمارتها، والأصل في الطلب هو الوجوب، لا تنافي العبادة، بل هي ـ إذا استقامت على أمر الله، وانضبطت بتعاليم شرعه ـ تصبح عبادة وقربة إلى الله تعالى، كما سيأتي.
والله تعالى وهب الإنسان العقل، وأهله بالعلم لمنصب الخلافة في الأرض، وفضله بذلك على الملائكة، الذين لم يعلمهم ما علم آدم من الأسماء والخصائص، وإنما آثره بذلك ليستخدم عقله وعلمه في تعمير الأرض، والانتفاع بما سخره الله فيها لمصلحته، دون علو ولا إفساد.
وقد جعل الله الأرض للإنسان مهادا وفراشا، وجعل له فيها مستقرا ومتاعا إلى حين وبارك فيها وقدر فيها أقواتها، وأودع فيها أسباب المعايش التي تحقق بقاء هذا النوع إلى ما شاء الله، فما من دابة في الأرض، ولا طائر يطير بجناحيه إلا ورزقه موفور في هذه المعمورة.
ولكن جرت سنة الله ألا ينال رزقه إلا بكدح وسعي، فمن جد وجد، ومن زرع حصد.
يقول الله تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا، فامشوا في مناكبها، وكلوا من رزقه، وإليه النشور).
فمن مشى في مناكب الأرض الذلول أكل من رزق الله، ومن قعد وتقاعس ـ بلا عذر ـ كان جديرا ألا يأكل، إلا أخذا من حق غيره من المشاة العاملين.
والعبادات الشعائرية في الإسلام لا تعطل المسلم عن العمل لدنياه، فهي لا تحتاج إلى تفرغ ولا انقطاع، بل هي دقائق معدودات لكل صلاة من الصلوات اليومية، الموزعة على أوقات اليوم والليلة.
ويوم الجمعة الذي فرضت فيه صلاة أسبوعية على المسلم، ليس يوم انقطاع عن العمل الدنيوي كيوم السبت عند اليهود، بل هو كسائر الأيام، إن شاء المسلم عمل فيه، وإن شاء استراح إن كان لا بد له أن يستريح.
والقرآن يقول: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله).
وبهذا نرى أن المسلم ـ كما يصوره القرآن ـ كان في بيع وشراء وعمل قبل الصلاة حتى إذا سمع النداء، توقف وسعى إلى ذكر الله، فإذا انتهى من الصلاة عاد من جديد يواصل رحلة الكدح في الحياة، منتشرا في الأرض مبتغيا من فضل الله.
و(الابتغاء من فضل الله) تعبير قرآني متميز، عن طلب الكسب من التجارة وغيرها، وهو تعبير له إيحاؤه وتأثيره في نفس المسلم.
والقرآن يصف رواد المساجد، العابدين لله تعالى بقوله: (يسبح له فيها بالغدو والآصال، رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار).
ليس هؤلاء العباد المخلصون رهبانا ولا دراويش، بل هم رجال أعمال وأموال، ولكن لم تلههم دنياهم عن آخرتهم، ولم يشغلهم حظ أنفسهم عن حق ربهم.
والمسلم مطالب أن يعمل لدنياه، بما تيسر له من فروع الإنتاج، زراعة أو صناعة أو تجارة، أو رعيا أو صيدا، أو استخراجا لما في الأرض، أو غير ذلك، مما تحتاج إليه الجماعة.
وفي الحديث الصحيح: "ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كان له به صدقة" متفق عليه.
بل جاء في حديث آخر: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها" رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد.
ومعنى هذا أن المسلم مطالب بالعمل للحياة إلى أن تلفظ آخر أنفاسها، سواء انتفع بعمله أحد أم لم ينتفع، إنما هو مطالب بالعمل لذات العمل، فهو عبادة، وجهاد مقدس.
وجاء في حديث البخاري: "ما أكل أحد قط طعاما أفضل من أن يأكل من عمل يده، وأن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده" رواه البخاري.
وفي حديث آخر: "التاجر الصدوق يحشر مع الشهداء".
ولهذا اختلف الفقهاء والشراح: أي هذه الأعمال أفضل وأبر عند الله تعالى: الزراعة أم الصناعة أم التجارة؟
والذي رجحوه أن الأفضل منها ما اشتدت حاجة الناس إليه، وانشغل الناس عنه… فإذا انصرف الناس عن الزراعة إلى الصناعة أو التجارة، لكثرة مكاسبهم بها، مع مسيس حاجتهم إلى الأقوات والثمار، كانت الزراعة أفضل وأعظم مثوبة عند الله.
وإذا انصرف الناس عن الصناعات والحرف، وأصبحوا فيها عالة على غيرهم من غير المسلمين، كان العمل في هذا الميدان أولى وأعظم أجرا.
وإذا احتاج الناس إلى التجارة، لانقطاع الطرق، أو لوجود مخاطر شديدة، أو لقلة المكاسب بها، أو لغلبة بعض الأفراد أو الفئات على الأسواق، وتلاعبهم بالأسعار واحتكارهم للسلع والأقوات، تكون التجارة هنا أفضل.

0 التعليقات:

إرسال تعليق