2- العبادة
لماذا وجدت؟ وما مهمتي في هذا الوجود؟ ورسالتي في هذه الحياة؟
سؤال واجب على الإنسان ـ كل إنسان ـ أن يسأله لنفسه، وأن يفكر مليا في جوابه.
فإن كل جهل ـ مهما عظمت نتائجه ـ قد يغتفر، إلا أن يجهل الإنسان سر وجوده، وغاية حياته، ورسالة نوعه وشخصه في هذه الأرض!
وأكبر العار على هذا الكائن الذي أوتي العقل والإرادة ـ الإنسان ـ أن يعيش غافلا، يأكل ويتمتع كما تأكل الأنعام، لا يفكر في مصيره، ولا يدري شيئا عن حقيقة نفسه، وطبيعة دوره في هذه الحياة حتى يوافيه الموت بغتة، فيواجه مصيره المجهول، دون استعداد له، ويجني ثمرة الغفلة والجهل والانحراف في عمره الطويل أو القصير، وحينئذ يندم حين لا ينفع الندم ويرجو الخلاص ولات حين مناص.
لهذا كان لزاما على كل بشر عاقل أن يبادر فيسأل نفسه بجد: لماذا خلقت؟ وما غاية خلقي؟
لماذا خلق الإنسان..؟
والجواب عن هذا السؤال عند المؤمنين حاضر: ذلك أن كل صانع يعرف سر صنعته: لماذا صنعها؟ ولماذا صنعها على نحو معين دون غيره؟
والله تعالى هو صانع الإنسان وخالقه ومدبر أمره، فلنسأله: يا رب لماذا خلقت هذا الإنسان؟ هل خلقته لمجرد الطعام والشراب؟ هل خلقته للهو واللعب؟ هل خلقته لمجرد أن يمشى على التراب، ويأكل مما خرج من التراب، ثم يعود كما كان إلى التراب، وقد ختمت القصة؟ هل ليعيش تلك الفترة القصيرة المعذبة ما بين صرخة الوضع وأنة النزع؟ إذن فما سر هذه القوى والملكات التي أودعتها الإنسان من عقل وإرادة وروح؟
وسيرد الله على تساؤلنا بما بين لنا في كتابه ـ كتاب الخلود ـ أنه خلقه ليكون خليفة في الأرض، وهذا واضح في آدم وما كان من تمنى الملائكة لمنزلته: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون).
وأول شيء في هذه الخلافة أن يعرف الإنسان ربه حق معرفته ويعبده حق عبادته، قال تعالى: (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما)، وفي هذه الآية جعلت معرفة الله هي الغاية من خلق السموات والأرض.
ويقول تعالى: (وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرازق ذو القوة المتين).
إن المتأمل في هذا الكون الذي نعيش فيه يرى كل شيء فيه يحيا ويعمل لغيره، فنحن نرى أن الماء للأرض، والأرض للنبات، والنبات للحيوان، والحيوان للإنسان، والإنسان لمن؟ هذا هو السؤال.
والجواب الذي تنادي به الفطرة، وتنطق به مراتب الكائنات في هذا الكون: أن الإنسان لله.. لمعرفته، لعبادته.. للقيام بحقه وحده.. ولا يجوز أن يكون الإنسان لشيء آخر في الأرض أو في الأفلاك، لأن كل العوالم العلوية والسفلية مسخرة له، وتعمل في خدمته كما هو شاهد، يكون هو لها أو يعمل في خدمتها؟
ومن هنا كانت عبادة الإنسان لقوى الطبيعة ومظاهرها من فوقه ومن تحته، كالشمس والقمر والنجوم والأنهار والأبقار والأشجار ونحوها، قلبا للوضع الطبيعي، وانتكاسا بالإنسان أي انتكاس!!
والإنسان إذن بحكم الفطرة ومنطق الكون، إنما هو الله سبحانه لا لغيره، لعبادته وحده، لا لعبادة بشر ولا حجر، ولا بقر ولا شجر، ولا شمس ولا قمر، وكل عبادة لغير الله إنما هي من تزيين الشيطان عدو الإنسان.
هذه العبادة لله وحده هي العهد القديم الذي أخذه الله على بني الإنسان، وسجله بقلم القدرة في فطرهم البشرية، وغرسه في طبائعهم الأصيلة، منذ وضع في رؤوسهم عقولا تعي، وفي صدورهم قلوبا تخفق، وفي الكون حولهم آيات تهدي: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان، إنه لكم عدو مبين، وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم) .
فلا عجب أن يكون المقصود الأعظم من بعثة النبيين، وإرسال المرسلين، وإنزال الكتب المقدسة، هو تذكير الناس بهذا العهد القديم، وإزالة ما تراكم على معدن الفطرة من غبار الغفلة أو الوثنية أو التقليد. ولا عجب أن يكون النداء الأول لكل رسول: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره).
بهذا دعا قومه نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وكل رسول بعث إلى قوم مكذبين. قال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتبوا الطاغوت)، (وما أرسلا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون).
معنى العبادة وحقيقتها
في القاموس: العبدية والعبودية والعبادة: الطاعة.
وفي الصحاح: أصل العبودية الخضوع والذل. والتعبيد: التذلل.
يقال: طريق معبد. والبعير المعبد: المهنوء بالقطران المذلل.
والعبادة: الطاعة. والتعبد: التنسك. تفرق بين المعاني بحسب الاشتقاق.
(فادخلي في عبادي) أي في حزبي. فأضاف معنى جديدا وهو الولاء. وفي المخصص (ج13 ص96):
أصل العبادة: التذليل. من قولهم: طريق معبد أي بكثرة الوطء عليه. ومنه أخذ "العبد" لذله لمولاه.
والعبادة والخضوع والتذلل والاستكانة قرائب في المعاني.
يقال: تعبد فلان لفلان ـ إذا تذلل له. وكل خضوع ليس فوقه خضوع فهو عبادة، طاعة كان للمعبود أو غير طاعة، وكل طاعة لله على جهة الخضوع والتذلل فهي عبادة. والعبادة نوع من الخضوع لا يستحقه إلا المنعم بأعلى أجناس النعم. كالحياة والفهم والسمع والبصر.
وفي (لسان العرب) نحو ذلك.
أما شيخ الإسلام ابن تيمية. فهو ينظر إلى العبادة نظرة أعمق وأوسع، فهو يحلل معناها إلى عناصره البسيطة. فيبرز إلى جوار المعنى الأصلي في اللغة ـ وهو غاية الطاعة والخضوع ـ عنصرا جديدا له أهمية كبرى في الإسلام، وفي كل الأديان. عنصرا لا تتحقق العبادة ـ كما أمر الله ـ إلا به، وذلك هو عنصر "الحب" فبغير هذا العنصر العاطفي الوجداني لا توجد العبادة التي خلق الله لها الخلق، وبعث بها الرسل، وأنزل الكتب .
وفي توضيح ذلك يقول شيخ الإسلام في رسالته عن "العبودية":
"الدين يتضمن معنى الخضوع والذل. يقال: دنته فدان، أي أذللته فذل. ويقال: يدين الله ويدين لله: أي يعبد الله ويطيعه ويخضع له. فدين الله عبادته وطاعته والخضوع له".
"والعبادة أصل معناها: الذل أيضا. يقال: طريق معبد، إذا كان مذللا قد وطئته الأقدام، لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له. فإن آخر مراتب الحب هو التتيم، وأوله العلاقة، لتعلق القلب بالمحبوب ثم الصبابة لانصباب القلب إليه، ثم الغرام، وهو الحب الملازم للقلب، ثم العشق، وآخرها التتيم. يقال: تيم الله، أي عبد الله، فالمتيم: المعبد لمحبوبه".
قال: "ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدا له، ولو أحب شيئا لم يخضع له، لم يكن عابدا له. كما قد يحب الرجل ولده وصديقه. ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء. وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء، بل لا يستحق المحبة والخضوع التام إلا الله، وكل ما أحب لغير الله فمحبته فاسدة وما عظم بغير أمر الله فتعظيمه باطل. فقال الله تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره).
وبهذا الشرح العميق لمعنى العبادة وحقيقتها، ندرك أن العبادة المشروعة لا بد لها من أمرين:
الأول: هو الالتزام بما شرعه الله ودعا إليه رسله، أمرا ونهيا، وتحليلا وتحريما. وهذا هو الذي يمثل عنصر الطاعة والخضوع لله.
فليس عبدا ولا عابدا لله من رفض الاستسلام لأمره، واستكبر عن اتباع نهجه. والانقياد لشرعه وإن أقر بأن الله خالقه ورازقه، فقد كان مشركو العرب يقرون بذلك. ولم يجعلهم القرآن بذلك مؤمنين ولا عبادا لله طائعين، فخضوع الإقرار بالربوبية لا يكفي، وخضوع الاستعانة في الكربات والاستغاثة في الشدائد لا يكفي، ولابد من خضوع التعبد والانقياد والاتباع الذي هو حق الألوهية. وبهذا يتحقق معنى (إياك نعبد وإياك نستعين).
وأساس الخضوع لله تعالى هو الشعور الواعي بوحدانيته تعالى، وقهره لكل من في الوجود، وما في الوجود. فكلهم عبيده وخلقه، وفى قبضة قدرته وسلطانه. وفى هذا يقول القرآن الكريم: (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال، قبل من رب السموات والأرض، قل الله، قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون أنفسهم نفعا ولا ضرا، قل هل يستوي الأعمى والبصير، أم هل تستوي الظلمات والنور، أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم، قل الله خالق كل شيء، وهو الواحد القهار).
أساس الخضوع الله الواحد القهار هو الشعور الذاتي بالحاجة إلى من يملك الضر والنفع والموت والحياة، ومن له الخلق والأمر، ومن بيده ملكوت كل شيء، ومن إذا أراد شيئا قال له "كن" فيكون.. الشعور بالضعف أمام من يملك القوة كل القوة. والشعور بالجهل أمام من أحاط بكل شيء علما. والشعور بالعجز أمام من يملك القدرة كل القدرة، والشعور بالفقر أمام من يملك الغنى كل الغنى. وباختصار شعور العبودية المخلوقة الفانية الفقيرة بالذات أمام الربوبية الخالقة الأزلية الأبدية، المالكة لكل شيء، والمدبر لكل أمر.
وكلما ازداد الإنسان معرفة بنفسه، ومعرفة بربه، ازدادت هذه المشاعر وضوحا وقوة، فقوى اعتماده على الله، واتجاهه إليه، وتوكله عليه، واستعانته به، وتذلله له، ومد يد الضراعة إليه، ووقوفه ببابه سائلا داعيا منيبا إليه.
فإذا جهل الإنسان قدر نفسه، وجهل قدر ربه لم تمت هذه المشاعر، ولكنها تنحرف وتتحول فتبحث لها عن رب تتجه إليه، وتخضع له، وتنقاد إليه ولا بد، وإن لم تشعر بذلك، أو لم تسمه خضوعا، وانقيادا، ولم تسم مقصودها ربا وإلها.
والثاني: أن يصدر هذا الالتزام من قلب يحب الله تعالى. فليس في الوجود من هو أجدر من الله تعالى بأن يحب؟ فهو صاحب الفضل والإحسان، الذي خلق الإنسان ولم يكن شيئا مذكورا، وخلق له ما في الأرض جميعا، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، وخلقه في أحسنتقويم وصورة فأحسن صورته، وكرمه وفضله على كثير من خلقه، ورزقه من الطيبات، وعلمه البيان، واستخلفه في الأرض، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، فمن أولى من الله بأن يحب؟ ومن يحب الإنسان ـ إذن ـ إن لم يحب الله تعالى؟! إن أساس محبة الله تعالى هو الشعور بفضله ونعمته، وإحسانه ورحمته، والإحساس بجماله وكماله، فمن كان يحب الإحسان فالله هو واهبه وصاحبه، ومن كان يحب الجمال فالله هو مصدره، ومن كان يحب الكمال فلا كمال في الحقيقة إلا كماله، ومن كان يحب ذاته. فالله هو خالقه.
فمن عرف الله أحبه، وبقدر درجته في المعرفة تكون درجته في المحبة، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أشد الناس حبا لله؛ لأنه كان أعرفهم بالله، وكانت قرة عينه في الصلاة؛ لأنها الصلة المباشرة بين قلبه وبين الله، وكان في دعائه يسأل الله الشوق إلى لقائه، ولذة النظر إلى وجهه سبحانه. ولما خير بين البقاء في الدنيا وبين اللحوق بربه قال: أختار الرفيق الأعلى!
أما علماء الكلام أو بعضهم ممن زعموا أن الحب الحقيقي لا يتصور من جانب العبد لله، وقالوا: إن معنى حب الله هو المواظبة على طاعته تعالى أما حقيقة الحب فهو محال، إلا مع الجنس والمثال، فقد رد عليهم الغزالي في "الإحياء" ردا مفصلا، مبينا أن الذي يستحق المحبة الكاملة بكل وجوهها، وكافة أسبابها هو الله وحده.
إذا كان الله قد خلقنا لنعبده، أي لنطيعه طاعة مصحوبة بأقصى الخضوع، الممزوج بغاية الحب، ففي أي شيء تكون هذه الطاعة؟ ـ طاعة الخضوع والحب ـ وفي أي مجال يجب أن تكون؟ إن الجواب عن هذا التساؤل سيبين لنا حقيقة هامة، هي: شمول معنى العبادة في الإسلام، وسعة آفاقها.
وهذا الشمول له مظهران:
الأول: شمولها للدين كله وللحياة كلها.
الثاني: شمولها لكيان الإنسان كله ظاهره وباطنه. كما سنشرح ذلك فيما يلي.
لقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن قول الله عز وجل: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) ما العبادة؟ وما فروعها؟ وهل مجموع الدين داخل فيها أم لا؟ فأجاب رحمه الله عن ذلك إجابة مبسوطة مفصلة تضمنتها رسالته المعروفة باسم العبودية، وقد بدأها بقوله:
"العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، والمملوك من الآدميين، والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة".
وهكذا نجد أن للعبادة ـ كما شرحها ابن تيمية ـ أفقا رحبا ودائرة واسعة، فهي تشمل الفرائض والأركان الشعائرية من الصلاة والصيام والزكاة والحج. وهي تشمل ما زاد على الفرائض من ألوان التعبد التطوعي من ذكر وتلاوة ودعاء واستغفار، وتسبيح وتهليل وتكبير وتحميد.
وهي تشمل حسن المعاملة والوفاء بحقوق العباد، كبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان لليتيم والمسكين وابن السبيل، والرحمة بالضعفاء، والرفق بالحيوان.
وهي تشمل الأخلاق والفضائل الإنسانية كلها، من صدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وغير ذلك من مكارم الأخلاق.
وأخيرا تشمل العبادة الفريضتين الكبيرتين اللتين هما سياج ذلك كله وملاكه وهما: 1- الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، 2- وجهاد الكفار والمنافقين في سبيل الله.
بل تشمل العبادة أمرا له أهميته وخطره في الحياة المادية للناس، ذكره ابن تيمية في موضع آخر من رسالته، وهو الأخذ بالأسباب، ومراعاة السنن التي أقام الله عليها الكون، قال: "فكل ما أمر الله به عباده من الأسباب فهو عبادة".
وأكثر من ذلك ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله: أن الدين كله داخل في العبادة. إذ الدين يتضمن معنى الخضوع والذل، يقال: دنته فدان، أي أذللته فذل. ويقال: يدين الله ويدين لله، أي يعبد الله ويطيعه ويخضع له. فدين الله: عبادته وطاعته والخضوع له. والعبادة أمل معناها الذل أيضا.
وبهذا يلتقي معنى الدين بأصل معنى العبادة لغة وشرعا.
وإذا عرفنا أن الدين كله عبادة كما قال الإمام ابن تيمية، وعرفنا أن الدين قد جاء يرسم للإنسان منهج حياته، الظاهرة والباطنة، ويحدد سلوكه وعلاقاته، وفقا لما يهدى إليه هذا المنهج الإلهي ـ عرفنا أن عبادة الله تسع الحياة كلها ـ وتنظم أمورها قاطبة: من أدب الأكل والشرب، وقضاء الحاجة إلى بناء الدولة، وسياسة الحكم، وسياسة المال، وشئون المعاملات والعقوبات، وأصول العلاقات الدولية في السلم والحرب.
ولهذا نجد كتاب الله الكريم يخاطب عباده المؤمنين بأوامر تكليفية وأحكام شرعية، تتناول جوانب شتى من الحياة، وفى سورة واحدة ـ هي سورة البقرة ـ نجد مجموعة من التكاليف كلها جاءت بصيغة واحدة " كتب عليكم" ولنقرأ هذه الآيات الكريمة:
(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى)، (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف)، (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)، (كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم).
فهذه الأمور كلها من القصاص، والوصية، والصيام، والقتال، مكتوبة من الله على عباده، أي مفروضة عليهم، فعليهم أن يعبدوا الله بالتزامها والانقياد لها.
وبهذا البيان يتضح لنا حقيقة هامة لا زال يجهلها الكثيرون من المسلمين. فبعض الناس لا يفهم من كلمة "العبادة" إذا ذكرت إلا الصلاة والصيام والصدقة والحج والعمرة، ونحو ذلك من الأدعية والأذكار، ولا يحسب أن لها علاقة بالأخلاق والآداب، أو النظم والقوانين، أو العادات والتقاليد.
إن عبادة الله ليست محصورة ـ إذن ـ في الصلاة والصيام والحج وما يلحق بها من التلاوة والذكر والدعاء والاستغفار، كما يتبادر إلى فهم كثير من المسلمين إذا دعوا إلى عبادة الله، وكما يحسب كثير من المتدينين أنهم إذا قاموا بهذه الشعائر فقد وفوا الإلهية حقها، وقاموا بواجب العبودية لله كاملا.
إن هذه الشعائر العظيمة والأركان الأساسية في بناء الإسلام ـ على منزلتها وأهميتها ـ إنما هي جزء من العبادة لله، وليست هي كل العبادة التي يريدها الله من عباده.
والحق أن دائرة العبادة التي خلق الله لها الإنسان، وجعلها غايته في الحياة ومهمته في الأرض، دائرة رحبة واسعة، إنها تشمل شؤون الإنسان كلها، وتستوعب حياته جميعا.
إن مقتضى عبادة الإنسان لله وحده: أن يخضع أموره كلها لما يحبه تعالى ويرضاه، من الاعتقادات والأقوال والأعمال، وأن يكيف حياته وسلوكه وفقا لهداية الله وشرعه. فإذا أمره الله تعالى أو نهاه، أو أحل له أو حرم عليه كان موقفه في ذلك كله: (سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير).
ففرق ما بين المؤمن وغيره: أن المؤمن خرج من العبودية لنفسه وللمخلوقين إلى العبودية لربه. خرج من طاعة هواه إلى طاعة الله. ليس المؤمن "سائبا" يفعل ما تهوى نفسه أو يهوى له غيره من الخلق. إنما هو "ملتزم" بعهد يجب أن يفي به، وميثاق يجب أن يحترمه، ومنهج يجب أن يتبعه. وهذا التزام منطقي ناشئ من طبيعة عقد الإيمان ومقتضاه.
مقتضى عقد الإيمان: أن يسلم زمام حياته إلى الله، ليقودها رسوله الصادق، ويهديه الوحي المعصوم.
مقتضى عقد الإيمان: أن يقول الرب: أمرت ونهيت. ويقول العبد: سمعت وأطعت .
مقتضى عقد الإيمان: أن يخرج الإنسان من الخضوع لهواه إلى الخضوع لشرع مولاه.
وفي هذا يقول القرآن الكريم: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا). ويقول: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا، وأولئك هم المفلحون).
ليس بعابد لله إذن من قال: أصلي وأصوم وأحج، ولكني حر في أكل لحم الخنزير، أو شرب الخمر، أو أكل الربا، أو رفض ما لا يروقني من أحكام الشريعة، فأحكم فيه بغير ما أنزل الله: ليس بعابد لله من أدى الشعائر، ولكنه لم يخضع لآداب الإسلام وتقاليده في نفسه أو أهله، كالرجل الذي يلبس الحرير الخالص ويتحلى بالذهب، ويتشبه بالنساء، والمرأة التي تلبس ما يبرز مفاتنها، ولا يغطي جسدها، ولا تضرب بخمارها على جيبها. ليس بعابد لله من ظن أن عبوديته لله لا تعدو جدران المسجد، فإن انطلق في ميادين الحياة المتشعبة، فهو عبد نفسه فقط، وبعبارة أخرى:
هو حر في اتباع هواها، أو اتباع أهواء عبيد أنفسهم من المخلوقين!
وأكثر من ذلك: أن الإسلام قد فسح مجال العبادة ووسع دائرتها، بحيث شملت أعمالا كثيرة لم يكن يخطر ببال الناس أن يجعلها الدين عبادة وقربة إلى الله.
إن كل عمل اجتماعي نافع يعده الإسلام عبادة من أفضل العبادات ما دام قصد فاعله الخير، لا تصيد الثناء واكتساب السمعة الزائفة عند الناس. كل عمل يمسح به الإنسان دمعة محزون، أو يخفف به كربة مكروب، أو يضمد به جراح منكوب، أو يسد به رمق محروم، أو يشد به أزر مظلوم، أو يقيل به عثرة مغلوب، أو يقضي به دين غارم مثقل، أو يأخذ بيد فقير متعفف ذي عيال، أو يهدي حائرا، أو يعلم جاهلا، أو يؤوي غريبا، أو يدفع شرا عن مخلوق أو أذى عن طريق، أو يسوق نفعا إلى ذي كبد رطبة ـ فهو عبادة وقربة إلى الله إذا صحت فيه النية.
أعمال كثيرة من هذا النوع جعلها الإسلام من عبادة الرحمن، وشعب الإيمان، وموجبات المثوبة عند الله.
فليست الصلاة أو الصيام أو الذكر والدعاء هي وحدها التي تكتب لك عبادة في يومك، وتستوجب بها الأجر عند ربك، كلا.. إنك تستطيع في اليوم الواحد أن تضيف إلى ميزان عبادتك وحسناتك أشياء كثيرة، لها ثقلها وقيمتها في تقدير الحق تبارك وتعالى، وإذ بدت عندك هينة خفيفة في الميزان.
من ذلك ما قاله رسول الإسلام ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الإصلاح بين المتخاصمين قال: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة"؟ قالوا: بلى..
قال: "إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة"، وفي رواية: "لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين".
ويقول عليه الصلاة والسلام في عيادة المريض وما لها من مكانة عند الله لما فيها من تخفيف ومواساة: "من عاد مريضا ناداه مناد من السماء: طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلا".
والإسلام يجعل هذه الأعمال الاجتماعية فريضة يومية على كل مسلم.
بل إننا لنقرأ أحاديث النبي الكريم في هذا الباب، فنرى أنه لم يكتف بفرض هذه العبادة العامة على الإنسان من حيث هو إنسان فحسب، بل يشتد في طلبها، فيفرضها على كل ميسم من مياسمه، أو كل مفصل من مفاصله.
فيروي أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل سلامي من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس: يعدل بين الاثنين صدقة، ويعين الرجل في دابته، فيحمله أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة".
وأعجب من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم يجعل الأعمال الدنيوية التي يقوم بها الإنسان لمعيشته، والسعي على نفسه وأهله، من أبواب العبادة والقربات إلى الله، وإن لم يتعد نفعها دائرته الشخصية والأسرية. فالزارع في حقله، والعامل في مصنعه، والتاجر في متجره، والموظف في مكتبه، وكل ذي حرفة في حرفته، يستطيع أن يجعل من عمله المعاشي صلاة وجهادا في سبيل الله، إذا التزم فيه الشروط الآتية:
1- أن يكون العمل مشروعا في نظر الإسلام. أما الأعمال التي ينكرها الدين كالعمل في الربا والحانات، والمراقص ونحوها، فلا تكون ولن تكون عبادة أبدا.. إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا.
2- أن تصحبه النية الصالحة: نية المسلم إعفاف نفسه، وإغناء أسرته، ونفع أمته، وعمارة الأرض، كما أمر الله.
3- أن يؤدي العمل بإتقان وإحسان، ففي الحديث: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء"، "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه".
4- أن يلتزم فيه حدود الله، فلا يظلم ولا يخون، ولا يغش، ولا يجور على حق غيره.
5- ألا يشغله عمله الدنيوي عن واجباته الدينية كما قال تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله، ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون)، (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة).
على أن الأروع مما تقدم كله أن تشمل العبادة الحاجات الضرورية التي يؤديها المسلم استجابة لدافع الغريزة البشرية. فالأكل والشرب ومباشرة الزوج لزوجته، وما كان من هذا القبيل يدخله الإسلام في دائرة العبادة الفسيحة بشرط واحد هو "النية". فالنية هي المادة السحرية العجيبة التي تضاف إلى المباحات والعادات فتصنع منها طاعات وقربات.
وأوضح شاهد على ذلك ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:
"وفي بضع أحدكم صدقة" قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر"؟ قالوا: نعم، قال: "كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر"!!. قال العلماء: وهذا من تمام رحمة الله على عباده، يثيبهم على ما فيه قضاء شهواتهم إذا نووا أداء حق الزوجة، وإحصان الفرج. ولله الحمد.
إن شمول معنى العبادة في الإسلام ـ كما شرحناه ـ له آثار مباركة في النفس والحياة يحسها الإنسان في ذاته. ويلمسها في غيره. ويرى ظلالها في الحياة من حوله. وأبرز هذه الآثار وأعمقها أمران:
الأول: أنه يصبغ حياة المسلم وأعماله فيها بالصبغة الربانية، ويجعله مسدودا إلى الله في كل ما يؤديه للحياة، فهو يقوم به بنية العابد الخاشع. وروح القانت المخبت، وهذا يدفعه إلى الاستكثار من كل عمل نافع. وكل إنتاج صالح، وكل ما ييسر له ولأبناء نوعه الانتفاع بالحياة، على أمثل وجوهها. فإن ذلك يزيد رصيده من الحسنات والقربات عند الله عز وجل.
كما يدعوه هذا المعنى إلى إحسان عمله الدنيوي وتجويده وإتقانه، ما دام يقدمه هدية إلى ربه سبحانه، ابتغاء رضوانه وحسن مثوبته.
والثاني: أنه يمنح المسلم وحدة الوجهة، ووحدة الغاية في حياته كلها، فهو يرضي ربا واحدا، في كل ما يأتي ويدع، ويتجه إلى هذا الرب بسعيه كله: الديني والدنيوي، لا انقسام ولا صراع ولا ازدواج في شخصيته ولا في حياته.
إنه ليس ممن يعبدون الله في الليل، ويعبدون "المجتمع" في النهار.
وليس ممن يعبدون الله في المسجد، ويعبدون "الدنيا" أو "المال" في ساحة الحياة.
وليس ممن يعبدون الله في يوم من أيام الأسبوع ثم يعبدون ما سواه ومن سواه سائر أيام الأسبوع.
لا.. إنه يعبد الله وحده حيثما كان، وكيفما كان، وفي أي عمل كان.. فوجه الله لا يفارقه في عمل ولا حال ولا زمان: (ولله المشرق والمغرب، فأينما تولوا فثم وجه الله).
وبهذا ينصرف همه كله إلى الله، ويجتمع قلبه كله على الله، ولا يتوزع شمل حياته وفكره وإرادته ووجدانه بين شتى الاتجاهات، والتيارات والانقسامات.
إن حياته كلها وحدة لا تتجزأ. منهجه فيها عبادة الله، وغايته رضوان الله، ودليله وحي الله.
على أن هذا التقسيم إنما يأتي إذا كتبوا في الفقه ـ فإذا كتبوا في غيره وجدنا مثل ابن تيمية يصرح بأن العبادة تشمل الدين كله. كما ذكرنا، ووجدنا مثل ابن القيم يدخل الدين كله أيضا في (إياك نعبد) كما سيأتي قريبا في بيانه لمراتب العبودية الخمسين.
هذا هو المظهر الثاني لشمول العبادة في الإسلام.
فكما شملت العبادة في الإسلام الحياة كلها، استوعبت كذلك كيان الإنسان كله.
فالمسلم يعبد الله بالفكر، ويعبد الله بالقلب، ويعبد الله باللسان، ويعبد الله بالسمع والبصر وسائر الحواس، ويعبد الله ببدنه كله، ويعبد الله ببذل المال، ويعبده ببذل النفس، ويعبده بمفارقة الأهل والوطن.
المسلم يتعبد الله بالفكر، عن طريق التأمل في النفس والآفاق، والتفكر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء، والتدبر لآيات الله المنزلة وما فيها من هدى وحكمة، والنظر في مصائر الأمم وأحداث التاريخ وما فيها من عظة وعبرة.
ويتعبد المسلم لله بالقلب عن طريق العواطف الربانية والمشاعر الروحية، مثل: حب الله وخشيته، والرجاء في رحمته والخوف من عقابه، والرضا بقضائه، والصبر على بلائه، والشكر لنعمائه، والحياء منه، والتوكل عليه، والإخلاص له.
ويتعبد المسلم لله باللسان عن طريق الذكر والتلاوة والدعاء والتسبيح والتهليل والتكبير.
ويتعبد المسلم لله ببدنه كله: إما كفا وامتناعا عن ملذات البدن وشهواته، كما في الصيام. وإما حركة وعملا ونشاطا، كما في الصلاة التي يتحرك فيها البدن كله: اللسان والأعضاء، مع العقل والقلب.
ويتعبد المسلم لله ببذل المال الذي هو شقيق الروح، كما في الزكاة والصدقات، وهذا ما يسميه الفقهاء "العبادة المالية" كما سموا الصلاة والصوم "العبادة البدنية" ويعنون بكلمة "البدن" هنا كيان الإنسان كله لا الجسم المادي وحده. فإن النية شرط لكل عبادة، ومحلها القلب بالإجماع، وعبادة المجنون والسكران ونحوها لا تصح ولا تقبل: (حتى تعلموا ما تقولون).
ويتعبد المسلم لله ببذل مهجته والتضحية بنفسه وبمصالحه المادية العاجلة، ابتغاء مرضاة الله، كما في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين، لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
ويتعبد المسلم لله بمفارقة الأهل والوطن والضرب في الأرض: إما للحج والعمرة، وإما للهجرة إلى أرض يستطيع فيها المسلم إقامة دينه، وإما للجهاد في سبيل الله، وإما لطلب علم نافع، أو نحو ذلك، مما يبذل فيه المسلم عادة ـ راحة بدنه وحر ماله. ولهذا نعتبر هذا النوع من العبادات "بدنيا وماليا" معا حسب التقسيم الفقهي المتعارف.
سر العبادة وغايتها
عرفنا أن رسالة الإنسان في الوجود هي عبادة الله وحده…
وعرفنا أن العبادة هي غاية الخضوع الممزوج بغاية الحب لله…
وعرفنا أن العبادة ـ في الإسلام ـ تشمل الدين كله، وتسع الحياة بمختلف جوانبها.
وبقى هنا سؤال قد يسأله بعض الناس. وهو: لماذا نعبد الله تعالى؟
وبعبارة أخرى: لماذا فرض الله علينا عبادته وطاعته وهو الغنى عنا؟ وما الغاية من تكليفنا هذه العبادة؟ هل يعود عليه ـ سبحانه ـ نفع من عبادتنا له، وخشوعنا لوجهه؟ ووقوفنا ببابه، وانقيادنا لأمره ونهيه جل شأنه؟ أم النفع يعود علينا نحن المخلوقين؟ وما حقيقة هذا النفع إن كان؟ أم الهدف هو مجرد الأمر من الله والطاعة منا؟
والجواب: أنه ـ تبارك اسمه ـ لا تنفعه عبادة من عبده، ولا يضره إعراض من صد عنه.
وقد أخبرنا على لسان سليمان في القرآن: (قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن ربي غني كريم) وقال تعالى: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد). وقال عز وجل في الحديث القدسي: "يا عبادي إنكم لم تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا".
وإذا كان الله سبحانه له هذا الغنى المطلق فلماذا إذن كلف عباده أن يعبدوه ويطيعوه؟
وأظن ـ بعد أن يعرف الإنسان جواب الأسئلة الخالدة: من أين، وإلى أين، ولم ـ أن من السهل أن يعرف جواب هذا السؤال. إنه كامن في طبيعة الإنسان نفسه، وطبيعة مهمته في الأرض، والغاية التي أعد لها من وراء هذه الحياة.
(أ) فالإنسان ليس هو هذا الغلاف المادي الذي نحسه ونراه، والذي يطلب حظه من طعام الأرض وشرابها. ولكن حقيقة الإنسان في ذلك الجوهر النفيس الذي صار به إنسانا مكرما سيدا على ما فوق الأرض من كائنات. ذلك الجوهر هو الروح.. الذي يجد حياته وزكاته في مناجاة الله عز وجل. وعبادة الله هي التي توفر لهذا الروح غذاءه ونماءه، وتمده بمدد يومي لا ينفد ولا يغيض.
ولئن تراكم على هذا الجوهر المعنوي الغفلة والغرور، وران عليه صدأ الجحود أو الشك، لقد تهب عواطف المحن فتزيح الغبار، أو تندلع نار الشدائد فتجلو الصدأ. وسرعان ما يعود الإنسان إلى ربه فيدعوه ويتضرع إليه. وهذه حقيقة ذكرها القرآن، وأيدتها وقائع الحياة:
(هو الذي يسيركم في البر والبحر، حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم، دعوا الله مخلصين له الدين، لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين)
إن القلب الإنساني دائم الشعور بالحاجة إلى الله، وهو شعور أصيل صادق لا يملأ فراغه شيء في الوجود إلا حسن الصلة برب الوجود وهذا ما تقوم به العبادة إذا أديت على وجهها.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"القلب فقير بالذات إلى الله من جهتين: من جهة العبادة.. ومن جهة الاستعانة والتوكل.. فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا ينعم ولا يسر، ولا يلتذ ولا يطيب، ولا يسكن ولا يطمئن، إلا بعبادة ربه وحده وحبه والإنابة إليه.
ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه ـ بالفطرة ـ من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه. وبذلك يحصل له الفرح والسرور، واللذة والنعمة، والسكون والطمأنينة).
(ب) ثم إن العبودية الخالصة لله هي ـ في واقع الأمر ـ عين الحرية. وسبيل السيادة الحقيقية، فهي ـ وحدها ـ التي تعتق القلب من رق المخلوقين، وتحرره من الذل والخضوع لكل ما سوى الله من أنواع الآلهة والطواغيت التي تستعبد الناس وتسترقهم أشد ما يكون الاسترقاق والاستعباد، وإن ظهروا ـ صورة وشكلا ـ بمظهر السادة الأحرار!
ذلك أن في قلب الإنسان حاجة ذاتية إلى رب، إلى إله، إلى معبود، يتعلق به، ويسعى إليه، ويعمل على رضاه، فإذا لم يكن هذا المعبود هو الله الواحد الأحد، تخبط في عبادة آلهة شتى وأرباب أخر، مما يرى وما لا يرى، وممن يعقل، وما لا يعقل ومما هو موجود وما ليس بموجود، إلا في الوهم والخيال.
وليس أشرف للإنسان العاقل من أن يعبد من خلقه فسواه فعدله، ويطرح عبادة كل ما سواه ومن سواه.
وليس أجلب لسعادته وسلام ضميره من توجيه همه إلى إله واحد يخصه بالخضوع والحب، فلا تتوزع قلبه الآلهة والأرباب المزيفون: (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل، هل يستويان مثلا)؟
فالعبد السالم لسيد واحد قد استراح؛ إذ عرف ما يرضى سيده فأداه بارتياح وانشراح. أما العبد الذي يملكه شركاء متشاكسون يأمره أحدهم بعكس ما يأمره غيره، فما أتعسه وما أشقاه!!.
(ج) والحياة التي نحياها هذه ـ طالت أو قصرت ـ ليست هي الغاية ولا إليها المنتهى، وما هي إلا محطة انتقال إلى حياة أخرى ودار أخرى؛ حياة البقاء، ودار الخلود. وفي بعض الآثار: "إنكم خلقتم للأبد، وإنما تنقلون من دار إلى دار" وقال الشاعر:
وما الموت إلا رحلة غير أنها من المنزل الفاني إلى المنزل الباقي
فالمعول عليه إذن إنما هو الدار الأخرى: (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون).
والإنسان في هذه الدار الفانية إنما يستصلح لتلك الدار الباقية، يستخلفه الله هنا ليعد ويصقل للخلود هناك، ولا شيء يصقله ويهذبه ويعده مثل الابتلاء، فهو البوتقة التي تصهر فيها النفس ويصفو الروح.
فقد شاء الله أن يخلق الإنسان نوعا متميزا على غيره، بما ركب فيه من عناصر مزدوجة، يمكن أن تصعد به إلى السماء، وأن يهبط بها إلى الأرض، ففيه الغريزة والشهوة، وفيه العقل والإرادة، فيه المادة، وفيه الروح.
(د) والعبادة ـ فوق ذلك كله ـ هي حق الخالق ـ جل شأنه ـ على خلقه.
وفى ذلك روى البخاري ومسلم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال لي: "يا معاذ.. أتدري ما حق الله على العباد"؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا".
وليس بمستنكر أن يكون لله علينا حق عبادته وحده سبحانه، بل المستنكر أن يكون غير هذا.. المستنكر أن نعبد ما دون الله أو من دون الله، فنؤدي الحق لغير أهله، أو نزعم لأنفسنا الاستقلال عن الله فنجحد عبوديتنا له بغير حق.
إننا لم نكن شيئا مذكورا ثم كنا: خرجنا من ظلمة العدم إلى نور الوجود، ثم كنا نوعا مكرما من الخليقة: خلقنا في أحسن تقويم، وصورنا في أحسن صورة، وعلمنا البيان، وأوتينا العقل والإرادة، وسخرت الكائنات حولنا لخدمتنا: الأرض لنا مهاد وفراش، والسماء لنا سقف وبناء، والشمس تمدنا بالضوء والحرارة، والكواكب تهدينا وتزين سقفنا، والبحار تجري فيها سفائننا بأرزاقنا، والماء ينزل من السماء ليكون لنا شرابا طهورا، ونسقي منه أنعاما وأناسي كثيرا.
ترى من الذي فعل ذلك كله؟ أما نحن فلم نخلق أنفسنا ولم نصنع ذرة مما حولنا.. ولم يدع بشر ولا جن ولا ملاك: أنه صانع ذلك ومدبره.. فمن هو صاحب العلم الواسع والحكمة البالغة والقدرة القاهرة والإرادة الفعالة.. الذي صنع هذا الكون الدقيق فأحكمه، ورتبه فأحسنه؟ والذي خلق الإنسان فأحسن خلقه، وسخر له ما في السموات وما في الأرض، وأسبغ عليه النعم ظاهرة وباطنة؟
إنه الله الذي شهدت ربوبيته الفطر السليمة، وأقرت بوجوده وكماله ووحدانيته العقول النيرة.
فلا عجب أن يكون لهذا الخالق المنعم حق العبادة والاستعانة به، والابتهال إليه، والوقوف ببابه الكريم موقف الضراعة والتسليم والانقياد: (سبح اسم ربك الأعلى، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، والذي أخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى)، (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون، الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم).
0 التعليقات:
إرسال تعليق