hhhh

4587

3-بناء المجتمع الصالح


ويهدف الإسلام إلى تكوين المجتمع الصالح، كما هدف إلى الفرد الصالح، والأسرة الصالحة، وهما ـ لا شك ـ أساس متين لصلاح المجتمع المنشود.
والمجتمع الصالح هو الذي يرتبط أفراده وأسره بقيم الإسلام العليا، ومبادئه المثلى، ويجعلها رسالة حياته، ومحور وجوده.

وأهم القيم الإسلامية في هذا المقام هي:
(أ) التجمع على العقيدة: فالمجتمع الإسلامي ليس مجتمعا قوميا أو إقليميا، وإنما هو مجتمع عقائدي، مجتمع فكرة وعقيدة، وعقيدته هي الإسلام، فهو الأساس "الأيديولوجي" لهذا المجتمع.
قد يكون أبناء هذا المجتمع من أجناس مختلفة، أو ألوان مختلفة، أو أوطان مختلفة، أو ألسنة مختلفة، أو طبقات مختلفة، ولكن هذا الاختلاف كله يذوب وينصهر أمام وحدة العقيدة، أمام "لا إله إلا الله ـ محمد رسول الله"، أمام الإيمان المشترك الذي يضم الجميع في رحاب أخوته: (إنما المؤمنون إخوة).
فإذا أردنا أن نصف هذا المجتمع بصفة فذة تميزه عما سواه، لم نجد إلا أن نقول: إنه "مجتمع مؤمن"، أو هو "مجتمع المؤمنين" أولئك الذين وصفهم الله تعالى في مطلع سورة البقرة: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، وبالآخرة هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم، وأولئك هم المفلحون).
والإيمان الإسلامي ليس مجرد شعار أو دعوى، أو تعصب على الآخرين، وإنما هو حقيقة تستقر في النفس، ينبثق عنها سلوك، ويصدقها عمل إيجابي، ومن ثم جسد القرآن الإيمان أبدا في أعمال وأخلاق، كما في أوائل سورة الأنفال، وسورة المؤمنين، وأواخر سورة الحجرات، وغيرها.
(ب) ومن هنا جاء الاهتمام بقيمة أخرى من القيم التي يقوم عليها المجتمع الصالح الذي يهدف الإسلام إلى تحقيقه، وهي: "احترام العمل الصالح" بل تقديسه، سواء كانت صيغته دينية كالصلاة والصيام والحج والعمرة، والذكر والتلاوة والدعاء، أم دنيوية، كالسعي في طلب الرزق، وعمارة الأرض بالزراعة والصناعة والاحتراف، وكل ما فيه منفعة الناس، والإحسان إليهم. فهذا أصل مقرر معروف، اعتبره القرآن ركنا في كل دين، مقرونا بالله واليوم الآخر. قال تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
وقرن القرآن العمل بالإيمان في أكثر من سبعين آية، في مثل قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا).
ولا ريب أن إقامة شعائر الله، وأداء فرائضه الكبرى ـ من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت هي أول ما ينطبق عليه معنى العمل الصالح، فليس هناك عمل أصلح للمخلوق من معرفة خالقه، وعبادة ربه، وإخلاص الدين له، شكرا لنعمته، ووفاء بحق ربوبيته، ولكننا رأينا في حديثنا عن "العبادة" في "مقومات الإسلام" أنها تسع الحياة كلها، وتشمل كيان الإنسان كله، فكل عمل نافع عبادة.
(ج) والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أصل بين من أصول هذا الدين، فليس يكفي ـ في منطق الإسلام ـ أن يكون المرء صالحا في خاصة نفسه، غافلا عن فساد غيره، بل الصالح عنده حقا، من أصلح نفسه، وحاول إصلاح غيره، ولو بالدعوة والأمر والنهي، كما قال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون). وبهذه الخصيصة ترجحت الأمة المسلمة على سائر الأمم: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله).
ومن هنا سجل القرآن لعنة الله لبني إسرائيل ـ على لسان داود وعيسى ابن مريم ـ لسكوتهم عن المنكر ـ وعدم تناهيهم عنه: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون).
(د) والجهاد في سبيل الله ـ حماية للحق، وتثبيتا للخير، وتأمينا للدعوة، ومنعا للفتنة، وصدا للمغيرين، وتأديبا للناكثين، وإنقاذا للمستضعفين ـ أصل إسلامي لا ينكره مسلم، ولا يجهل منزلته وفضله، وما أعد الله لأهله، فضلا عن مشروعيته، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثاقلتم إلى الأرض؟ أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة؟ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل، إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا، والله على كل شيء قدير)، (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها)، (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين،… وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله)، وقال: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا)، (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون).
(هـ) وتثبيت الفضائل الخلقية كلها في شتى جوانب الحياة، ونشرها وحمايتها، من العدل، والإحسان، والبر، والصلة، والتعاون على البر والتقوى، واحترام النظام، والصدق والعفاف، ورعاية الأمانة والوفاء بالعهد، والإخلاص في السر والعلانية، وقول الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، والصبر في البأساء والضراء وحين البأس، وكف اليدين واللسان عن إيذاء الناس، وطهارة القلب من الغل والحسد، والرياء، والنفاق، وحب الدنيا، وسائر أمراض النفوس ـ كلها من الركائز المعنوية التي لا يقوم مجتمع مسلم إلا عليها.

(و) والإخاء والمحبة من دعائم المجتمع المسلم، وهذا مقتضى الإيمان الذي يربط بين أهله برباط العقيدة الوثيق: (إنما المؤمنون إخوة).
وقد أثبت التاريخ والواقع أنه لا رباط أقوى من العقيدة، وأن لا عقيدة أقوى من الإسلام.
وأدنى مراتب هذا الإخاء: سلامة الصدور من الحسد والبغضاء، التي اعتبرها الحديث النبوي: "داء الأمم" وسماها "الحالقة"، ليست حالقة الشعر ولكن حالقة الدين، وقد مدح الله تعالى أجيال التابعين للصحابة بإحسان بقوله: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا).
وكلما عمقت جذور الإيمان، امتدت فروع الإخاء وظلاله وثماره في النفس والحياة، وتحررت الأنفس من الأنانية المقيتة، وتطلعت إلى العطاء لا الأخذ، وإلى التضحية لا الغنيمة، وفي الحديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
وقد يرتقي ذلك إلى درجة الإيثار الذي وصف الله به مجتمع الصحابة بقوله: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة).

(ز) التعاطف والتراحم، وهذا من ثمرات الإخاء الحق، وهو ما صوره الحديث الشريف أبلغ تصوير حين قال: "ترى المسلمين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء، بالحمى والسهر".
وفي الحديث الآخر: "الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
وأوجب ما يكون العطف والرحمة: للضعفاء من الناس من اليتامى والمساكين وأبناء السبيل والخدم والمعوقين من البشر، ولهذا اعتبر القرآن من مظاهر الكفر والتكذيب بالدين القسوة على هؤلاء وتركهم يهلكون جوعا وعريا وضياعا: (أرأيت الذي يكذب بالدين، فذلك الذي يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين)، وذم المجتمع الجاهلي بقوله: (كلا بل لا تكرمون اليتيم، ولا تحاضون على طعام المسكين).
ويعرض علينا القرآن مشهدا من مشاهد يوم القيامة، وإذا الذي يأخذ كتابه بشماله، لم يغن عنه ماله، أو يمنعه سلطانه، ينادي عليه على رؤوس الإشهاد: (خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه، إنه كان لا يؤمن بالله العظيم، ولا يحض على طعام المسكين)، فرق بين عدم الإيمان وعدم الحض، ليدل على عظم جريمة القسوة على المساكين.

(ح) التساند والتعاون، وهو المظهر العملي للإخاء والتراحم، والتعاون الإسلامي مجاله البر والتقوى وليس الإثم والعدوان، كما بين ذلك القرآن الكريم: (وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)، ولهذا حرم الإسلام الربا والاحتكار لما فيهما من استغلال القوي للضعيف، واعتصار الغني للفقير.
وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك أصابعه".
وهو يشمل التعاون بين أفراد الشعب وفئاته بعضهم بعض، أو بين الشعب والحاكم، كما ذكر القرآن التعاون بين "ذي القرنين"، وتلك الجماعة المهددة من "يأجوج ومأجوج" قال: (ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما).

(ط) التكافل والتضامن: بحيث ينهض القوي بالضعيف، ويعود الغني على الفقير، ولا يضيع عاجز ولا مسكين في هذا المجتمع، والحد الأدنى في ذلك هو فريضة الزكاة ـ الركن الثالث في الإسلام ـ والتي يقوم عليها حراس ثلاثة: حارس من داخل ضمير الفرد المسلم، وهو الإيمان.. وحارس من داخل المجتمع، وهو الرأي العام المسلم.. وحارس من قبل الدولة، وهو القانون والسلطان: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها).
وفي المال حقوق أخرى سوى الزكاة، وبخاصة حق الجار على جاره، بحيث يتكافل المجتمع له في السراء والضراء.
وفي الحديث: "ليس بمؤمن من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع".
والتكافل الإسلامي يستوعب كل جوانب الحياة ـ مادية، ومعنوية ـ فهو تكافل معيشي وعلمي وأدبي وعسكري إلى غير ذلك من المجالات التي فصلها الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله في كتابه "اشتراكية الإسلام".

(ي) التواصي والتناصح، وهذا من التكافل الأدبي، الذي يجعل كل مسلم مسئولا عمن حوله من أبناء المجتمع، ينصح لهم وينصحون له، ويوصيهم بالحق والصبر، ويتقبل الوصية منهم كذلك.وليس في المسلمين أحد أكبر من أن ينصح، ولا أحد أصغر من أن ينصح. وهذا من أساسيات الدين، وموجبات الإيمان، وشروط النجاة من الخسران، وفي القرآن: (والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)، (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر).
وفي الحديث: "الدين النصيحة: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم"، وفي الحديث الآخر: "المؤمن مرآة المؤمن".

(ك) التطهر والترقي، فالمجتمع المسلم مجتمع نظيف يربي أبناءه على الطهارة والعفة والإحصان، ويحرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ويعتبر الخمر والميسر، رجسا من عمل الشيطان، ويأمر المؤمنين والمؤمنات أن يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم، وينهى عن التبرج والإغراء بالقول أو بالمشي أو بالحركة، حتى لا يطمع الذين في قلوبهم مرض، وحتى لا يثير الغرائز الهاجعة، فتنطلق تعيث وتعربد، بلا قيود من خلق ولا دين.
والمجتمع المسلم ليس مجتمع ملائكة مطهرين، ولكن من ابتلي منهم، بارتكاب معصية، استتر بها، ولم يتبجح بفعلها، أو بالإعلان عنها، وبذلك ينحصر أثرها، ولا يتطاير شررها، ثم يرجى منه بعد ذلك أن يتوب منها: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين).

(ل) العدالة، وتشمل عدالة التعامل بين الناس في شئون الحياة، فإن العدل فريضة، والظلم حرام، كما في الحديث القدسي: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا".
وتشمل العدالة الاقتصادية أو الاجتماعية التي تقف في وجه الأقوياء حتى لا يمتصوا دماء الضعفاء، بل تعمل على الحد من طغيان الأغنياء، بقدر ما ترفع من مستوى الفقراء، وما تفرض لهم من حقوق المال، الزكاة، أولها وليست آخرها.
وتشمل العدالة القانونية والقضائية، بحيث يصل لكل إنسان حقه، وإن كان عند خليفة المسلمين، وأن يستوفي عقوبته على جرمه، وإن كان ابن أمير المؤمنين: "وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".

(م) ومن أهم ما يوصف به هذا المجتمع الذي ينشئه الإسلام: أنه مجتمع متقدم، وليس مجتمعا متخلفا بحال.
وهذا أمر يحتاج إلى تجلية وتوضيح، فإن كلمة "تقدم" كلمة مطاطة، قابلة لأكثر من تفسير، والحضارة الغربية اليوم تزعم لنفسها أنها حضارة التقدم، وأن مجتمعاتها مجتمعات متقدمة، وأن مجتمعات المسلمين وغيرهم من أبناء ما يسمونه "العالم الثالث" كلهم من المتخلفين، وقد يتلطفون معهم، فلا يسمون بلادهم البلاد "المتخلفة"، وإنما يسمونها "النامية".
"ولا بد لنا أن نجيب بصراحة هنا عن موقفنا من التقدم ـ أو بعبارة أدق ـ عن موقف الإسلام من التقدم".
إن الإجابة عن هذا السؤال تقتضي منا أن نحدد أولا مفهوم التقدم، فالحكم للشيء، أو عليه، فرع عن تصوره.
والتقدم في معناه البسيط: أن يكون الإنسان قدام غيره، أي في جهة الإمام، ويقابله: التخلف، وهو أن يكون الإنسان في الخلف.
والأمامية والخلفية من الأمور النسبية، فقد تعتبر في الإمام بالنسبة لشخص وراءك، وتعتبر في الخلف بالنسبة لشخص أمامك، وقد تكون أمام مجموعة كلها من المتخلفين، فأنت حينئذ أسبق المتخلفين، كالسابق بين العرجان!

ولكن التقدم قد يقاس بالنسبة لهدف يريد الإنسان أن يبلغه، فكل حركة في اتجاهه تقرب إليه، تعد تقدما، بخلاف أي حركة في عكس الاتجاه الموصل إلى الهدف، لأنها حركة إلى الوراء حتما.
وكذلك التوقف والجمود في موضع واحد لا يعدوه صاحبه، لا إلى أمام ولا إلى وراء، هذا في حد ذاته تخلف، لأن توقفك يعطي غيرك فرصة ليخطو خطوة أو خطوات إلى الأمام، وأنت واقف في مكانك، فستتخلف أنت بقدر ما يتحرك هو. وخصوصا أن الأصل في الإنسان أنه حي متحرك، والحركة دليل الحياة.
وهنا يبرز السؤال الكبير، ما الهدف أو الأهداف التي يجب على البشر أن يبلغوها ويحققوها في حياتهم؟ حتى يكون القرب منها أو البعد عنها مقياسا للتقدم أو التخلف.

إن الإسلام يجعل لحياة البشر على الأرض أهدافا أساسية، وأبرزها كما جاء بها القرآن العظيم ثلاثة، ذكرها الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه القيم "الذريعة إلى مكارم الشريعة"، وهي:
1. العبادة لله، وإليها يشير قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).
2. الخلافة لله في الأرض، وإليها يشير قوله: (إني جاعل في الأرض خليفة)، وقوله: (ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون).
3. والعمارة للأرض، وإليها الإشارة بقوله: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها).

إن التقدم الذي يطلبه الإسلام للحياة: تقدم متكامل، روحي ومادي، أخلاقي وعمراني، دنيوي وأخروي، علمي وإيماني، ولا يجد أي تعارض بين هذه المتقابلات، بل هو يجمع بينها في توازن واتساق.
إنه تقدم في الأهداف والغايات، وتقدم في الوسائل والأساليب معا، فالإسلام أحرص ما يكون على نظافة الوسيلة، حرصه على شرف الغاية، ولا يقبل بحال الوصول إلى الغايات النبيلة بوسائل خسيسة أو قذرة، بل هو يرفض الوصول إلى الحق بطريق الباطل، يرفض أكل الربا وكسب الحرام لبناء المساجد، وتشييد المدارس، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا.
وفي ضوء هذا المفهوم المتكامل للتقدم قامت الحضارة الإسلامية الشامخة التي جمعت بين الروائع المادية التي تمثلت في مبدعات العمارة والفنون وغيرها، وبين المعاني الإيمانية والأخلاقية التي كانت هي الدوافع الحقيقية وراء هذا الإبداع، وكانت هي السند الروحي والمعنوي لهذه الحضارة التي لا تخطئ العين في عامة مظاهرها ومنجزاتها: إنها حضارة ربانية، محورها الإيمان، وركيزتها الأخلاق.

0 التعليقات:

إرسال تعليق