hhhh

4587

2-السنة النبوية


ومع ذلك ابتليت أمتنا ـ قديما وحديثا ـ بفئة قليلة العدة، ضعيفة العدة، قصيرة العرفان، طويلة اللسان، زعموا أننا في غير حاجة إلى السنة، وأن القرآن يغنينا عنها، وأنه وحده مصدر الدين كله، عقائده وشرائعه، ومفاهيمه وقيمه، وأخلاقه وآدابه.

واستندوا فيما زعموا ـ ككل صاحب بدعة وضلالة ـ إلى شبهات حسبوها أدلة، وهي مردودة عليهم بحجج أهل العلم التي لا تخلو الأرض منهم.
استدل الذين يزعمون أنهم أهل القرآن وأنصاره بما يلي:
1.قول الله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء)، (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء).
2. أن الله تعالى تكفل بحفظ القرآن فقال: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، ولم يتكفل بحفظ السنة.
3. أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للقرآن كتابا يكتبونه منذ نزل به جبريل عرفوا باسم "كتاب الوحي"، ولم يجعل ذلك للسنة، بل صح عنه قوله: "لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن".
4. أن السنة من أجل ذلك دخلها المنكر والموضوع، وما لا أصل له من الحديث، فضلا عن الضعيف والواهي وما لا يصلح للاحتجاج به، واختلط الحابل بالنابل، فلم يعد في الإمكان التمييز بين ما يصح وما لا يصح.

وهذه الشبهات كلها لا تصمد أمام التمحيص العلمي، وكلها مردودة.
* القرآن يبين القواعد، والسنة تفصل الأحكام:
1. أما قوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء)، فالمراد بهذه "الكلية": ما يتعلق بالأصول والقواعد الكلية التي يقوم عليها بنيان الدين في عقيدته وشريعته، ومن هذه الأصول: أن الرسول مبين لما نزل إليه، وبعبارة أخرى: أن السنة مبينة للقرآن: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما أنزل إليهم).
ولم يفهم أحد ـ في الأولين ولا الآخرين ـ أن التبيان القرآني تبيان تفصيلي، وإلا فإن العبادة الأولى، والفريضة اليومية، والشعيرة الكبرى في الإسلام (الصلاة) لا يوجد في القرآن أي تفصيل لها: لا عددها، ولا مواقيتها، ولا ركعاتها، ولا كيفياتها، ولا تفاصيل شروطها وأركانها، وكلها عرف بالسنة، وهو من المعلوم من الدين بالضرورة.
* حفظ الله للقرآن يستلزم حفظ السنة:
2. أن قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) يدل على حفظ القرآن بدلالة المطابقة، ويدل على حفظ السنة المبينة للقرآن بدلالة التضمين، فإن حفظ المبين يتضمن ويستلزم حفظ ما يبينه، لأن هذا من جملة الحفظ. كما بين ذلك الإمام الشاطبي رضي الله عنه.
فالحفظ له مظهران: مظهر مادي وهو حفظ الألفاظ والعبارات أن تنسى أو تحذف أو تبدل. ومظهر معنوي، وهو حفظ المعاني أن تحرف أو تمسخ وتشوه.
والكتب السماوية السابقة لم يتكفل الله بحفظها، واستحفظها أهلها، فلم يحفظوها، فتعرضت لنوعين من التحريف: التحريف اللفظي بتبديل الألفاظ بأخرى أو إسقاطها، والتحريف المعنوي بتأويلها بما يبعدها عن مراد الله تعالى منها.
وقد حفظ الله القرآن من كلا التحريفين، وكان البيان النبوي بالسنة من تمام حفظ الله تعالى لكتابه، وتصديقا لوعده بذلك حين قال: (ثم إن علينا بيانه).
ولقد أثبت التاريخ العلمي للمسلمين صدق ذلك، وحفظ الله تعالى سنة نبيه، كما حفظ كتابه الكريم.
وقام في كل عصر حراس أيقاظ، يحملون علم النبوة، وميراث الرسالة، يورثونه للأجيال، مشاعل تضيء، ومعالم تهدي، تصديقا لتلك النبوءة المحمدية، والبشارة المصطفوية: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين".
* أطوار تدوين السنة:
3. صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل للسنة كتابا يكتبونها كالقرآن، بل نهى عن كتابة غير القرآن في أول الأمر، لتتوفر الهمم على كتابة القرآن، لقلة الكاتبين، وقلة مواد الكتابة وتنوعها، وعسرها، وخشية اختلاط القرآن بغيره. ولكنه كتب أشياء مهمة لتبلغ عنه وتنفذ، مثل كتبه في الصدقات والديات وغيرها، وأذن لبعض الصحابة أن يكتبوا، مثل عبد الله بن عمرو وغيره. وحث على تبليغ الأحاديث لمن لم يسمعها بدقة وأمانة، وجاء في ذلك حديثه المستفيض، بل المتواتر عند بعض العلماء: "نضر الله امرءا سمع مقالتي، فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع"، وفي رواية: "فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه".
ومن الثابت بيقين لدى الباحثين المتخصصين اليوم: أن تدوين السنة لم يبدأ في رأس المائة الأولى للهجرة، كما قيل يوما، بل إن للتدوين أطورا بدأت منذ عصر النبوة، ونمت بعد ذلك في عصر الصحابة فمن بعدهم، كما دلت على ذلك الدراسات العلمية الموضوعية.
* جهود علماء الأمة في خدمة السنة وتنقيتها:
4. من المؤكد أن هناك من كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم متعمدين لدوافعشتى، فاستحقوا أن يتبوءوا مقعدهم بين عيني جهنم، ولا غرو، فهناك من افتروا الكذب على الله ذاته، ومن قال: أوحي إلي ولم يوح إليه شيء! ولكن من المؤكد أن علماء الأمة وصيارفة السنة، تصدوا لهؤلاء الدجالين، وكشفوا أستارهم، وفضحوا زيفهم، وقد قيل للإمام عبد بن المبارك: هذه الأحاديث الموضوعة؟ قال: تعيش لها الجهابذة!
ولقد عاش لها الجهابذة النقاد بالفعل، وطاردوها كما يطارد الخبراء النقود الزائفة في الأسواق، فقد تروج لدى بعض العوام، وتمر من يد إلى يد ثانية في غفلة عن الأعين الساهرة، ثم لا تلبث أن تضبط وينكشف زيفها وغشها.
وضع علماء الحديث القواعد الضابطة، ورفعوا المنارات الهادية، وأسسوا علوم الحديث ومصطلحه، واشترطوا لقبول الحديث شروطا أشرنا إليها من قبل. وهو ما لم تفعله أمة سبقت لحفظ تراث نبيها من الضياع أو التزوير.
وما قيل من أن الصحيح قد التبس بالضعيف، والحابل اختلط بالنابل، فهو ادعاء من لم يغص في بحار هذا العلم الشريف، ولم يسبر أغواره، ولم يطلع على الجهود الضخمة التي بذلتها عقول كبيرة، وملكات عالية، ومواهب خارقة، نذرت نفسها لخدمته وتجليته والدفاع عنه. فأسسوا علوم الرجال والطبقات والتواريخ، للثقات والمقبولين، وللضعفاء والمجروحين، وصنفوا في نحو تسعين علما ابتكروها عرفت باسم "علوم الحديث"، وكانت هي للحديث بمثابة "الأصول" للفقه. وأفردوا الصحيح من غيره، وعنوا بأحاديث الأحكام، وألفوا في الأحاديث الواهية والموضوعة. وكذلك في علل الأحاديث ونقدها.
إن التاريخ لم يسجل لأمة في حفظ تراث نبيها ما سجل لهذه الأمة الخاتمة. ووجود أحاديث زائفة لا يجعلنا نلقى الأحاديث كلها في سلة المهملات. هل يقول عاقل بإلغاء النقود السليمة وتحريم التعامل بها، أو اعتبارها عديمة القيمة، لأن هناك من المزورين من زيفوا بعض العملات، وروجوه لدى بعض الغافلين؟!

ثم إن الذين يزعمون الاستغناء عن السنة بالقرآن يخالفون ـ أول ما يخالفون ـ القرآن ذاته مخالفة صريحة.
فالقرآن يأمر بطاعة الرسول، بجوار طاعة الله تعالى، وذلك في عدد من الآيات الكريمة.
بل اعتبر القرآن الكريم طاعة لله تعالى، كما اعتبر بيعته بيعة لله تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله)، (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله).
وهذه بعض الآيات الآمرة بطاعة الرسول مع طاعة الله:
(وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا، فإن توليتم فاعلموا إنما على رسولنا البلاغ المبين).
(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون).
(قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا).
ولو كانت طاعة الرسول تعني اتباع القرآن وحده، لم هناك معنى لعطف الأمر بطاعته على طاعة الله تعالى، إذ العطف يقتضي المغايرة، وقد طلب الطاعة ـ في غير موضع ـ لكل منهما. فأفاد أن لكل منهما طاعة مستقلة.
وللعلامة ابن القيم كلام جيد في معنى الآية التي ذكرناها من سورة النساء.

والحق الذي لا مراء فيه: أن جل الأحكام ـ التي يدور عليها الفقه في شتى المذاهب المعتبرة ـ قد ثبت بالسنة.
ومن طالع كتب الفقه تبين له ذلك بكل جلاء! ولو حذفنا السنن، وما تفرع عليها واستنبط منها من تراثنا الفقهي، ما بقي عندنا فقه يذكر!!
ولهذا كان مبحث "السنة" ـ باعتبارها الدليل التالي للقرآن ـ في جميع كتب أصول الفقه، ولدى جميع المذاهب المعتبرة مبحثا إضافيا طويل الذيول، يتناول حجيتها وثبوتها وشروط قبولها، ودلالتها، وأقسامها، إلى غير ذلك مما لا يخفى على الدارسين.
وهذا ـ كما قلت ـ ينطبق على جميع المذاهب، من مذهب داود وابن حزم الظاهري المنكرين للقياس والتعليل، إلى أبي حنيفة وأصحابه الذين يعرفون باسم "مدرسة الرأي" في تاريخ الفقه الإسلامي.

0 التعليقات:

إرسال تعليق