4- وهناك حاجة أخرى إلى الدين: حاجة اجتماعية، إنها حاجة إلى بواعث وضوابط: بواعث تدفع أفراده إلى عمل الخير، وأداء الواجب وإن لم يوجد من البشر من يراقبهم، أو يكافئهم . . وضوابط تحكم علاقاتهم، وتلزم كل واحد منهم أن يقف عند حده، ولا يعتدي على حق غيره أو يفرط في خير مجتمعه، من أجل شهوات نفسه، أو منفعته المادية العاجلة.
ولا يقال: إن القوانين واللوائح كافية لإيجاد هذه الضوابط وتلك البواعث، فإن القوانين لا تخلق باعثا، ولا تكفي ضابطا، فإن الإفلات منها ممكن، والاحتيال عليها ميسور، ولهذا كان لا بد من بواعث وضوابط أخلاقية، تعمل من داخل النفس الإنسانية لا من خارجها. لا بد من هذا الباعث الداخلي، ومن هذا: الوازع الذاتي، لا بد من الضمير، أو "الوجدان" أو "القلب" ـ سمه ما شئت ـ فهو القوة التي إذا صلحت صلح عمل الإنسان كله، وإذا فسدت فسد كله.
ولقد عرف الناس بالمشاهدة والتجربة واستقراء التاريخ، أن العقيدة الدينية لا يغنى غناءها شيء في تربية الضمير وتزكية الأخلاق، وتكوين البواعث التي تحفز على الخير، والضوابط التي تردع عن الشر، حتى قال بعض قضاة العصر في بريطانيا ـ وقد هاله ما رأى من جرائم موبقة، رغم تقدم العلم، واتساع الثقافة، ودقة القوانين: "بدون أخلاق لا يوجد قانون، وبدون إيمان لا توجد أخلاق".
ولا غرو أن اعترف بعض الملاحدة أنفسهم بأن الحياة لا تستقيم بدون دين، بدون عقيدة في الله وفي الجزاء في الآخرة، حتى قال "فولتير": "لو لم يكن الله موجودا لوجب علينا أن نخلقه"! أي نخترع للناس إلها يرجون رحمته ويخافون عذابه، ويلتمسون رضاءه فيعملون الصالحات، ويتجنبون السيئات، ويقول مرة أخرى ساخرا: " لم تشككون في وجود الله، ولولاه لخانتني زوجتي، وسرقني خادمي"!!
وقال "بلوتارخ": "إن مدينة بلا أرض تقوم عليها، أسهل من قيام دولة بلا إله"!!
* حاجة المجتمع إلى التعاون والتماسك:
5- ثم إن للدين دورا كبير الأهمية في توثيق الصلة بين الناس بعضهم وبعض، باعتبارهم جميعا عبيدا لرب واحد خلقهم، وأبناء لأب واحد نسلهم، فضلا عما ينشئه الدين بينهم من أخوة العقيدة، وآصرة الإيمان.
(إنما المؤمنون إخوة) وما تحدثه هذه الأخوة الدينية من آثار في الأنفس والحياة، حتى نجد أحدهم يحب لأخيه ما يحب لنفسه، بل يؤثر أخاه على نفسه، ولو كان به خصاصة.
يقول شيخنا الدكتور محمد عبد الله دراز، في كتابه القيم (الدين):
لا حاجة بنا إلى التنبيه على أن الحياة في الجماعة لا قيام لها إلا بـ "التعاون" بين أعضائها، وأن هذا التعاون إنما يتم "بقانون" ينظم علاقاته، ويحدد حقوقه وواجباته، وأن هذا القانون لا غنى له عن "سلطان" نازع وازع، يكفل مهابته في النفوس ويمنع انتهاك حرماته.
تلك كلها مبادئ مقررة، والحديث فيها معاد مملول.
وإنما الشأن كل الشأن في هذا السلطان النازع الوازع: ما هو؟
فالذي نريد أن نثبته في هذه الحلقة من البحث هو أنه ليس على وجه الأرض قوة تكافئ قوة التدين أو تدانيها في كفالة احترام القانون، وضمان تماسك المجتمع واستقرار نظامه، والتئام أسباب الراحة والطمأنينة فيه.
السر في ذلك أن الإنسان يمتاز عن سائر الكائنات الحية بأن حركاته وتصرفاته الاختيارية يتولى قيادتها شيء لا يقع سمعه ولا بصره، ولا يوضع في يده ولا عنقه، ولا يجري في دمه، لا يسري في عضلاته وأعصابه، وإنما هو معنى إنساني روحاني، اسمه الفكرة والعقيدة، فالإنسان أبدا أسير هذه الفكرة والعقيدة.
ولقد ضل قوم قلبوا هذا الوضع وحسبوا أن الفكر والضمير لا يؤثران في الحياة المادية والاقتصادية، بل يتأثران بها، هذا الرأي الماركسي هو قبل كل شيء نزول بالإنسان عن عرش كرامته، ورجوع به القهقرى إلى مستوى البهيمية، ثم هو تصوير مقلوب للحقائق الثابتة المشاهدة في سلوك الأفراد والجماعات في كل عصر؛ فلكي يختار الناس أن يحيوا حياة مادية لا نصيب فيها للقلب ولا للروح، لا بد أن يقنعوا أنفسهم بادئ ذي بدء بأن سعادتهم هي في هذا النوع من الحياة. فالإنسان مقود أبدا بفكرة: صحيحة أو فاسدة، فإذا صلحت عقيدته صلح فيه كل شيء؟ وإن فسدت فسد كل شيء.
أجل إن الإنسان يساق من باطنه لا من ظاهره، وليست قوانين الجماعات ولا سلطان الحكومات بكافيين وحدهما لإقامة مدينة فاضلة تحترم فيها الحقوق، وتؤدى الواجبات على وجهها الكامل، فإذا الذي يؤدي واجبه رهبة من السوط أو السجن أو العقوبة المالية، لا يلبث أن يهمله متى اطمأن إلى سيفلت من طائلة القانون.
ومن الخطأ البين أن نظن أن في نشر العلوم والثقافات وحدها ضمانا للسلام والرخاء، وعوضا عن التربية والتهذيب الديني والخلقي؟ ذلك أن العلم سلاح ذو حدين: يصلح للهدم والتدمير، كما يصلح للبناء والتعمير، ولا بد في حسن استخدامه من رقيب أخلاقي يوجهه لخير الإنسانية وعمارة الأرض، لا إلى نشر الشر والفساد.
ذلكم الرقيب هو العقيدة والإيمان.
كلام الإمام محمد عبده:
وقد بين الأستاذ الإمام محمد عبده في كتابه الفريد "رسالة التوحيد" وجوه حاجة البشر إلى النبوة والرسالة الإلهية، وأنها للنوع الإنساني بمثابة العقل للفرد الإنساني، وأن البشر لا يستغنون عن هداية الله لهم بحال، لهذا أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين: (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير)، ولقد أكد هذا في تفسيره لسورة الفاتحة وبيان حاجة الناس إلى هدى الله سبحانه عند آية: (اهدنا الصراط المستقيم) كما نقله صاحب المنار رحمهما الله جميعا.
وعاد إلى ذلك في تفسير قوله تعالى من سورة النساء عقب بيان أحكام المواريث: (تلك حدود الله، ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها…) فقال رحمه الله:
"طاعة الرسول هي طاعة الله بعينها لأنه إنما يأمرنا بما يوحيه إليه الله من مصالحا التي فيها سعادتنا في الدنيا والآخرة، وإنما يذكر طاعة الرسول مع طاعة الله لأن من الناس من كانوا يعتقدون قبل اليهودية وبعدها، وكذلك بعد الإسلام إلى اليوم: أن الإنسان يمكن أن يتغنى بعقله وعلمه عن الوحي، يقول أحدهم: إنني أعتقد أن للعالم صانعا عليما حكيما، وأعمل بعد ذلك بما يصل إليه عقلي من الخير واجتناب الشر. وهذا خطأ من الإنسان، ولو صح ذلك لما كان في حاجة إلى الرسل، وقد تقدم في تفسير سورة الفاتحة: أن الإنسان محتاج بطبيعته النوعية إلى هداية الدين، وأنها هي الهداية الرابعة التي وهبها الله للإنسان بعد هداية الحواس والوجدان والعقل، فلم يكن العقل في عصر من عصوره كافيا لهداية أمة من أممه ومرقيا له بدون معونة الدين.
اعتراض من الملحدين وجوابه:
وقد عقب العلامة السيد رشيد رضا في تفسير المنار على كلام الشيخ عبده بإيراد اعتراض من المرتابين والملاحدة وأجاب عنه إجابة مطولة، فقال رحمه الله:
"يرد على هذا من جانب المرتابين والملاحدة: إننا نرى كثيرا من أفراد الناس لا يدينون بدين، وهم في درجة عالية من الأفكار والآداب، وحسن الأعمال التي تنفعهم وتنفع الناس، حتى أن العاقل المجرد عن التعصب الديني يتمنى لو كان الناس كلهم مثله، بل يسعى كثير من الفلاسفة لجعل الأمم مثل هؤلاء الأفراد في آدابهم وارتقائهم".
وأجيب عن هذا (أولا): بأن الكلام في هداية الجماعات من البشر، كالشعوب والقبائل والأمم الذين يتحقق بارتقائهم معنى الإنسانية في الحياة الاجتماعية، سواء كانت بل بدوية أو مدنية، وقد علمنا التاريخ أنه لم تقم مدنية في الأرض من المدنيات التي وعاها وعرفها إلا على أساس الدين، حتى مدنيات الأمم الوثنية كقدماء المصريين والكلدانيين واليونانيين، وعلمنا القرآن أنه ما من أمة إلا وقد خلا فيها نذير مرسل من الله عز وجل لهدايتها.
فنحن بهذا نرى أن تلك الديانات الوثنية كان لها أصل إلهي، ثم سرت الوثنية إلى أهلها حتى غلبت على أصلها، كما سرت إلى من بعدهم من أهل الديانات، التي بقي أصلها كله أو بعضه على سبيل القطع، أو على سبيل الظن. وليس للبشر ديانة يحفظ التاريخ أصلها حفظا تاما إلا الديانة الإسلامية، وهو مع ذلك قد دون في أسفاره كيفية سريان الوثنية الجلية أو الخفية إلى كثير من المنتسبين إليها كالنصيرية، وسائر الباطنية وغيرهم، ممن غلب عليهم التأويل أو الجهل، حتى إنه يوجد في هذا العصر من المنتمين إلى الإسلام من لا يعرفون من أحكامه الظاهرة غير قليل مما يخالفون به جيرانهم، كجواز أكل لحم البقر في الأطراف الشاسعة من الهند! وكيفية الزواج ودفن الموتى في بعض بلاد روسيا وغيرها!! فمن علم هذا لا يستبعد تحول الديانات الإلهية القديمة إلى الوثنية.
فاتباع الرسل وهداية الدين أساس كل مدنية، لأن الارتقاء المعنوي هو الذي يبعث على الارتقاء المادي. وها نحن أولاء نقرأ من كلام شيخ الفلاسفة الاجتماعيين في هذا العصر "هربرت سبنسر" أن آداب الأمم وفضائلها التي هي قوام مدنيتها مستندة كلها إلى الدين، وقائمة على أساسه، وإن بعض العلماء يحاولون تحويلها عن أساس الدين وباءها على أساس العلم والعقل، وأن الأمم إلى يجرى فيها هذا التحويل، لا بد أن تقع في طور التحويل في فوضى أدبية، لا تعرف عاتبها ولا يحدد ضررها. هذا معنى كلامه في بعض كتبه. وقد قال هو للأستاذ الإمام في حديث له معه: إن الفضيلة قد اعتلت في الأمة الإنجليزية في هذه السنين الأخيرة، من حيث قوى فيها الطمع المادي.
ونحن نعلم أن الأمة الإنجليزية من أشد أمم أوروبا تمسكا بالدين، مع كون مدنيتها أثبت، وتقدمها أعم، لأن الدين قوام المدنية بما فيه من روح الفضائل والآداب، على أن المدنية الأوروبية بعيدة عن روح الديانة المسيحية، وهو الزهد في المال والسلطان وزينة الدنيا، فلولا غلبة بعض آداب الإنجيل على تلك الأمم لأسرفوا في مدنيتهم المادية إسرافا غير مقترن بشيء من البر وعمل الخير، وإذا لبادت مدنيتهم سريعا. ومن يقل: إنه سيكون أبعدها عن الدين أقربها إلى السقوط والهلاك لا يكون مفتاتا في الحكم، ولا بعيدا عن قواعد علم الاجتماع فيه.
فحاصل هذا الجواب الأول عن ذلك الإيراد: أن وجود أفراد من الفضلاء غير المتدينين لا ينقض ما قاله الأستاذ الإمام من كون الدين هو الهداية الرابعة لنوع الإنسان التي تسوقه إلى كماله المدني في الدنيا، كما تسرقه إلى سعادة الآخرة.
وثانيا: إنه لا يمكن الجزم بأن فلانا الملحد الذي تراه عالي الأفكار والآداب قد نشأ على الإلحاد وتربى عليه من صغره، حتى يقال: إنه قد استغنى في ذلك عن الدين، لأننا لا نعرف أمة من الأمم تربي أولادها على الإلحاد، وإننا نعرف بعض هؤلاء الملحدين الذين يعدون في مقدمة المرتقين بين قومهم، ونعلم أنهم كانوا في نشأتهم الأولى من أشد الناس تدينا واتباعا لآداب دينهم وفضائله، ثم طرأ عليهم الإلحاد في الكبر، بعد الخوض في الفلسفة التي تناقض بعض أصول ذلك الدين الذي نشأوا عليه، والفلسفة قد تغير بعض عقائد الإنسان، وآرائه، ولكن لا يوجد فيها ما يقبح له الفضائل والآداب الدينية، أو يذهب بملكاته وأخلاقه الراسخة كلها، وإنما يسطو الإلحاد على بعض آداب الدين كالقناعة بالمال الحلال، فيزين لصاحبه أن يستكثر من المال ولو من الحرام، كأكل حقوق الناس والقمار بشرط أن يتقي ما يجعله حقيرا بين من يعيش معهم، أو يلقيه في السجن، وكالعفة في الشهوات، فيبيح له وآدابه، وأما غير الراقين منهم فهم الذين لا يصدهم عن الفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل إلا القوة القاهرة.
ولولا أن دول أوروبا قد نظمت فرق المحافظين على الحقوق من الشحنة والشرطة (البوليس والضابطة) أتم تنظيم، وجعلت الجيوش المنظمة عونا لهم عند الحاجة، لما حفظ لأحد عندها عرض ولا مال، ولعمت بلادها الفوضى والاختلال، ولقد كانت الحقوق والأعراض محفوظة في الأمم من غير وجود هذه القوى المنظمة أيام كان الدين مرعيا في الآداب والأحكام فتبين بهذا أن طاعة الله ورسله لا بد منها لسعادة الدنيا".
شهادة التاريخ والواقع:
إن تجارب التاريخ وتجارب الواقع كلها تنطق بأصالة الإيمان في الحياة، وضرورته للإنسان، فهو ضرورة للفرد ليطمئن ويسعد ويزكو، وهو ضرورة للمجتمع ليستقر ويتماسك ويرقى.
يقول الأستاذ العقاد: "إن تجارب التاريخ تقرر لنا أصالة الدين في جميع حركات التاريخ الكبرى، ولا تسمح لأحد أن يزعم أن العقيدة الدينية شيء تستطيع الجماعة أن تلغيه، ويستطيع الرد أن يستغني عنه، في علاقته بتلك الجماعة، أو فيما بينه وبين سريرته المطوية من حوله، ولو كانوا من أقرب الناس إليه".
"ويكرر لنا التاريخ أنه لم يكن قط لعامل من عوامل الحركات الإنسانية أثر أقوى وأعظم من عامل الدين، وكل ما عداه من العوامل الأخرى في حركات الأمم، فإنها تتفاوت فيه القوة بمقدار ما بينه وبين العقيدة الدينية من المشابهة في التمكن من أصالة الشعور وبواطن السريرة.
"هذه القوة لا تضارعها قوة العصبية ولا قوة الوطنية ولا قوة العرف، ولا قوة الأخلاق، ولا قوة الشرائع والقوانين، إذ كانت هذه القوة إنما ترتبط بالعلاقة بين المرء ووطنه، أو العلاقة بينه وبين مجتمعه، أو العلاقة بينه وبين نوعه، على تعدد الأوطان والأقوام.
"أما الدين فمرجعه إلى العلاقة بين المرء وبين الوجود بأسره، وميدانه يتسع لكل ما في الوجود من ظاهر وباطن، ومن علانية وسر، ومن ماض أو مصير، إلى غير نهاية، بين آزال لا تحصى في القدم، وآباد لا تحصى فيما ينكشف عنه عالم الغيوب. وهذا على الأقل هو ميدان العقيدة الدينية في مثلها الأعلى، وغاياتها القصوى، وإن لم تستوعبها ضمائر المتدينين في جميع العصور.
"ومن أدلة الواقع على أصالة الدين: أنك تلمس هذه الأصالة عند المقابلة بين الجماعة المتدينة، والجماعة التي لا دين لها، أو لا تعتصم من الدين بركن مكين.
"وكذلك تلمس هذه الأصالة عند المقابلة بين فرد يؤمن بعقيدة من العقائد الشاملة، وفرد معطل الضمير، مضطرب الشعور، يمضى في الحياة بغير محور يلوذ به، وبغير رجاء يسمو إليه.
"لهذا.. الفارق بين الجماعتين، وبين الفردين، كالفارق بين شجرة راسخة في منبتها وشجرة مجتثة من أصولها!
"وقل أن ترى إنسانا معطل الضمير، على شيء من القوة والعظمة، إلا أمكنك أن تتخيله أقوى من ذلك وأعظم، إذا حلت العقيدة في وجدانه محل التعطل والحيرة".
0 التعليقات:
إرسال تعليق