hhhh

4587

5-بناء الدولة الصالحة


وكما حرص الإسلام على إنشاء الأمة الصالحة المصلحة، ذات الرسالة الربانية الإنسانية الأخلاقية العالمية، هدف كذلك إلى أن تحكم هذه الأمة دولة صالحة، تحقق أهدافها، وتنمي خصائصها، وتحافظ على رسالتها، وتعمل على غرسها في الداخل، ونشرها في الخارج.

ولقد استطاع الاستعمار الذي حكم أكثر بلاد المسلمين ـ أن يغرس في الكثيرين منهم فكرة دخيلة، مؤداها أن الإسلام دين لا دولة. "دين" بالمفهوم الغربي لكلمة "الدين" أما شئون الدولة فلا صلة له بها. وإنما ينظمها العقل الإنساني وفقا لتجاربه وظروفه المتطورة!
لقد أرادوا أن يطبقوا على الإسلام في الشرق، ما طبق على المسيحية في الغرب. فكما أن النهضة هناك لم تتم إلا بعد التحرر من سلطان الدين، فكذلك يجب أن تقوم النهضة في شرقنا العربي الإسلامي على أنقاض الدين!
مع أن الدين هناك معناه الكنيسة وسلطة البابا، واستبداد رجال الكهنوت بالضمائر والأرواح. فأين هذا من الدين هنا، وليس فيه بابا ولا كهنوت ولا استبداد بالضمائر والأرواح؟!
على كل حال، لقد نجح الاستعمار في خلق فئات تؤمن أن الدين لا مكان له في توجيه الدولة وتنظيمها، وأن الدين شيء والسياسة شيء آخر، وأن هذا يجري على الإسلام، كما جرى على المسيحية. وكان من الشعارات المضللة التي شاعت أن "الدين لله والوطن للجميع"! وهي كلمة حق يراد بها باطل، ويمكن أن تقلب على كل الوجوه. فنستطيع أن نقول: إن الدين لله والوطن لله، أو: الدين للجميع والوطن للجميع، أو: الدين للجميع والوطن لله!
وإنما مرادهم بكلمة "الدين لله" أن الدين مجرد علاقة بين ضمير الإنسان وربه، ولا مكان له في نظام الحياة والمجتمع.
وكان أبرز مثل عملي لذلك هو "الدولة العلمانية" التي أقامها كمال أتاتورك في تركيا، وفرضها بالحديد والنار والدم على مجموع الشعب التركي المسلم، بعد تحطيم الخلافة العثمانية آخر حصن سياسي بقي للإسلام بعد صراع القرون، مع الصليبية واليهودية العالمية.
وقد أخذت الحكومات في البلاد الإسلامية الأخرى تقلد تركيا الجديدة على درجات متفاوتة، فأقصى الإسلام عن الحكم والتشريع في الأمور الجنائية والمدنية ونحوها، وبقي محصورا فيما سمي "الأحوال الشخصية" كما أقصى عن التوجيه والتأثير في الحياة الثقافية والتربوية والاجتماعية إلا في حدود ضئيلة. وفسح المجال كل المجال للتوجيه الغربي والثقافة الغربية والتقاليد الغربية.
وكان من أبرز المظاهر لنجاح الغزو الثقافي الغربي أن "الفكر العلماني" الدخيل الذي ينادي بفصل الدين عن الدولة، لم يقف عند الرجال "المدنيين" وحدهم، بل تعداهم إلى بعض الذين درسوا دراسة دينية في معهد إسلامي عريق كالأزهر، كما تجلى ذلك في كتاب الشيخ على عبد الرزاق "الإسلام وأصول الحكم".
ومن الإنصاف أن نقول: إن هذا الكتاب قد أحدث ضجة هائلة حين صدوره، في المجتمع عامة، وفي الأزهر خاصة، وقد شكلت هيئة من كبار علماء الأزهر لمحاكمة مؤلفه، فقضت بتجريده من شهادة العالمية، وإخراجه من زمرة العلماء، كما رد عليه كثير من العلماء والمفكرين أزهريين وغير أزهريين.
كان لا بد إذن من تأكيد الوقوف في وجه العلمانية ودعاتها ومبرريها، بتأكيد شمول الإسلام، وإبراز هذا الجانب الحي من أحكامه وتعاليمه: جانب الدولة، وتنظيمها وتوجيهها بأحكامه وآدابه، وإعلان أن ذلك جزء لا يتجزأ من نظام الإسلام.

ولم يكن هذا ابتكارا من الحركة الإسلامية ومؤسسها ودعاتها. بل هو ما تنطق به نصوص الإسلام القاطعة، ووقائع تاريخه الثابتة، وطبيعة دعوته الشاملة.
أما نصوص الإسلام فحسبنا منها آيتان من سورة النساء: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به، إن الله كان سميعا بصيرا، يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول).
فالخطاب في الآية للولاة والحكام: أن يرعوا الأمانات ويحكموا بالعدل، فإن إضاعة الأمانة والعدل نذير بهلاك الأمة وخراب الديار. ففي الصحيح: "إذا ضيعت الأمانة فانتظروا الساعة". قيل: وكيف إضاعتها؟ قال: "إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة".
والخطاب في الآية الثانية للرعية المؤمنين: أن يطيعوا "أولى الأمر" بشرط أن يكونوا "منهم" وجعل هذه الطاعة بعد طاعة الله وطاعة الرسول، وأمر عند التنازع برد الخلاف إلى الله ورسوله، أي إلى الكتاب والسنة. وهذا يفترض أن يكون للمسلمين دولة تهيمن وتطاع، وإلا لكان هذا الأمر عبثا.
وفي ضوء الآيتين المذكورتين ألف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه المعروف "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية" والكتاب كله مبني على الآيتين الكريمتين.
وإذا ذهبنا إلى السنة، رأينا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية". ولا ريب أن من المحرم على المسلم أن يبايع أي حاكم لا يلتزم بالإسلام. فالبيعة التي تنجيه من الإثم أن يبايع من يحكم بما أنزل الله… فإذا لم يوجد ذلك فالمسلمون آثمون حتى يتحقق الحكم الإسلامي، وتتحقق به البيعة المطلوبة. ولا ينجي المسلم من هذا الإثم إلا أمران: الإنكار ـ ولو بالقلب ـ على هذا الوضع المنحرف المخالف لشريعة الإسلام..
والسعي الدائب لاستئناف حياة إسلامية قويمة، يوجهها حكم إسلامي صحيح.
وجاءت عشرات الأحاديث الصحيحة عن الخلافة والإمارة والقضاء والأئمة وصفاتهم وحقوقهم من الموالاة والمعاونة على البر، والنصيحة لهم وطاعتهم في المنشط والمكره، والصبر عليهم، وحدود هذه الطاقة وهذا الصبر، وتحديد واجباتهم من إقامة حدود الله ورعاية حقوق الناس، ومشاورة أهل الرأي، وتولية الأقوياء الأمناء، واتخاذ البطانة الصالحة، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. إلى غير ذلك من أمور الدولة وشئون الحكم والإدارة والسياسة.
ولهذا رأينا شئون الأمة والخلافة تذكر في كتب العقائد وأصول الدين، كما رأيناها تذكر في كتب الفقه، كما رأينا كتبا خاصة بشئون الدولة الدستورية والإدارية والمالية والسياسية، كالأحكام السلطانية للماوردي، ومثله لأبي يعلى، والغياثي لإمام الحرمين، والسياسة الشرعية لابن تيمية، وتحرير الأحكام لابن جماعة، والخراج لأبي يوسف، ومثله ليحيى بن آدم، والأموال لأبي عبيد، ومثله لابن زنجويه.. وغير ذلك مما ألف ليكون مرجعا للقضاة والحكام كالطرق الحكمية، والتبصرة، ومعين الحكام. وما شابهها.

أما تاريخ الإسلام.. فينبئنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سعى بكل ما استطاع من قوة وفكر ـ مؤيدا بهداية الوحي ـ إلى إقامة دولة للإسلام، ووطن لدعوته، خالص لأهله، ليس لأحد عليهم فيها سلطان، إلا سلطان الشريعة. ولهذا كان يعرض نفسه على القبائل ليؤمنوا به ويمنعوه ويحموا دعوته، حتى وفق الله "الأنصار" من الأوس والخزرج إلى الإيمان برسالته، فلما انتشر فيهم الإسلام جاء وفد منهم إلى موسم الحج مكون من 73 رجلا وامرأتين، فبايعوه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أن يمنعوه مما يمنعون أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم، وعلى السمع والطاعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر… الخ… فبايعوه على ذلك… وكانت الهجرة إلى المدينة ليست إلا سعيا لإقامة المجتمع المسلم المتميز، تشرف عليه دولة مسلمة متميزة.
كانت "المدينة" هي "دار الإسلام" وقاعدة الدولة الإسلامية الجديدة، التي يرأسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو قائد المسلمين وإمامهم، كما إنه نبيهم ورسول الله إليهم.
وكان الانضمام إلى هذه الدولة، لشد أزرها، والعيش في ظلالها، والجهاد تحت لوائها، فريضة على كل داخل في دين الإسلام حينذاك. فلا يتم إيمانه إلا بالهجرة إلى دار الإسلام، والخروج من دار الكفر والعداوة للإسلام، والانتظام في سلك الجماعة المؤمنة المجاهدة التي رماها العالم في قوس واحدة. يقول الله تعالى: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولا يتهم من شيء حتى يهاجروا). ويقول في شأن قوم:
(فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله).
كما نزل القرآن الكريم يندد أبلغ تنديد بأولئك الذين يعيشون مختارين في دار الكفر والحرب، دون أن يتمكنوا من إقامة دينهم وأداء واجباتهم وشعائرهم: (إن الذين توفآهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم، وساءت مصيرا، إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفوا غفورا).
وعند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما شغل أصحابه رضي الله عنهم، أن يختاروا "إماما" لهم، حتى إنهم قدموا ذلك على دفنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فبادروا إلى بيعة أبي بكر، وتسليم النظر إليه في أمورهم، وكذا في كل عصر من بعد ذلك، وبهذا الإجماع التاريخي ابتداء من الصحابة والتابعين ـ مع ما ذكرنا من النصوص ـ استدل علماء الإسلام على وجوب نصب الإمام الذي هو رمز الدولة الإسلامية وعنوانها.
ولم يعرف المسلمون في تاريخهم انفصالا بين الدين والدولة إلا عندما نجم قرن العلمانية في هذا العصر، وهو ما حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منه، وأمر بمقاومته كما في حديث معاذ: "ألا إن رحى الإسلام دائرة، فدوروا مع الإسلام حيث دار، ألا إن القرآن والسلطان سيفترقان (أي الدين والدولة) فلا تفارقوا الكتاب. ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم، فإن عصيتموهم قتلوكم، وإن أطعتموهم أضلوكم". قالوا: وماذا نصنع يا رسول الله؟ قال: "كما صنع أصحاب عيسى ابن مريم: نشروا بالمناشير، وحملوا على الخشب. موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله".

أما طبيعة الإسلام ورسالته، فذلك أنه دين عام، وشريعة شاملة، وشريعة هذه طبيعتها لا بد أن تتغلغل في كافة نواحي الحياة، ولا يتصور أن تهمل شأن الدولة، وتدعها للمتحللين والملحدين، أو الفسقة، يديرونها تبعا للهوى.
كما إن هذا الدين يدعو إلى التنظيم وتحديد المسئولية، ويكره الاضطراب والفوضى في كل شيء، حتى رأينا الرسول صلى الله عليه وسلم يأمرنا في الصلاة أن نسوي الصفوف وأن يؤمنا أعلمنا، وفي السفر يقول: أمروا أحدكم.
يقول الإمام ابن تيمية في "السياسة الشرعية": يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها. فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع، لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد عند الاجتماع من رأس. حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا خرج ثلاثة في سفر، فليؤمروا أحدهم" (رواه أبو داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة).
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لثلاثة أن يكونوا بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم" فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع.
"ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل، وإقامة الحج والجمع والأعياد، ونصرة المظلوم، وإقامة الحدود، لا تتم إلا بالقوة والإمارة. ولهذا روى: "إن السلطان ظل الله في الأرض". ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون: لو كانت لنا دعوة مجابة، لدعونا بها للسلطان". وذلك لأن الله يصلح بصلاحه خلقا كثيرا.
ثم إن طبيعة الإسلام باعتباره منهجا يريد أن يسود ويقود ويوجه الحياة، ويحكم المجتمع، ويضبط سير البشر وفق أوامر الله، لا يظن به أن يكتفي بالخطابة والتذكير والموعظة الحسنة، ولا أن يدع أحكامه ووصاياه وتعليماته في شتى المجالات إلى ضمائر الأفراد وحدها، فإذا سقمت هذه الضمائر أو ماتت، سقمت معها وماتت تلك الأحكام والتعاليم. وقد قال الخليفة الثالث رضي الله عنه: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
فمن الناس من يهديه الكتاب والميزان، ومنهم من لا يردعه إلا الحديد والسنان. ولذا قال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس).
قال ابن تيمية: فمن عدل عن الكتاب عدل بالحديد، ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف.
وقال الإمام الغزالي: الدنيا مزرعة الآخرة، ولا يتم الدين إلا بالدنيا، والملك والدين توأمان، فالدين أصل، والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس فضائع، ولا يتم الملك والضبط إلا بالسلطان.
إن نصوص الإسلام لو لم تجئ صريحة بوجوب إقامة دولة للإسلام، ولم يجئ تاريخ الرسول وأصحابه تطبيقا عمليا لما دعت إليه هذه النصوص ـ لكانت طبيعة الرسالة الإسلامية نفسها تحتم أن تقوم للإسلام دولة أو دار، يتميز فيها بعقائده وشعائره وتعاليمه ومفاهيمه، وأخلاقه وفضائله، وتقاليده وتشريعاته.
فلا غنى للإسلام عن هذه الدولة المسئولة في أي عصر، ولكنه أحوج ما يكون إليها في هذا العصر خاصة. هذا العصر الذي برزت فيه "الدولة الأيديولوجية"، وهي الدولة التي تتبنى فكرة، يقوم بناؤها كله على أساسها، من تعليم وثقافة وتشريع وقضاء واقتصاد، إلى غير ذلك من الشئون الداخلية والسياسة الخارجية. كما نرى ذلك واضحا في الدولة الشيوعية والاشتراكية. وأصبح العلم الحديث بما وفره من تقدم تكنولوجي في خدمة الدولة، وأصبحت الدولة بذلك قادرة على التأثير في عقائد المجتمع وأفكاره وعواطفه وأذواقه وسلوكه بصورة فعالة، لم يعرف لها مثيل من قبل. بل تستطيع الدولة بأجهزتها الحديثة الموجهة أن تغير قيم المجتمع ومثله وأخلاقه رأسا على عقب، إذا لم تقم في سبيلها مقاومة أشد.
إن دولة الإسلام "دولة فكرية"، دولة تقوم على عقيدة ومنهج، فليست مجرد "جهاز أمن" يحفظ الأمة من الاعتداء الداخلي أو الغزو الخارجي، بل إن وظيفتها لأعمق من ذلك وأكبر. وظيفتها تعليم الأمة وتربيتها على تعاليم ومبادئ الإسلام، وتهيئة الجو الإيجابي والمناخ الملائم، لتحول عقائد الإسلام وأفكاره وتعاليمه إلى واقع عملي ملموس، يكون قدوة لكل من يلتمس الهدى، وحجة على كل سالك سبيل الردى.
ولهذا يعرف ابن خلدون "الخلافة" بأنها: حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا، ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة. فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به.
ولهذا وصف الله المؤمنين حين يمكن لهم في الأرض، وبتعبير آخر حين تقوم لهم دولة، فقال: (الذين مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر).
إن شعار دولة الإسلام ما قاله ربعي بن عامر لرستم قائد الفرس: إن الله بعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
ثم إن هذه الدولة الفكرية ليست ذات صفة محلية، ولكنها دولة ذات رسالة عالمية، لأن الله حمل أمة الإسلام دعوة البشرية إلى ما لديها من هدى ونور، وكلفها الشهادة على الناس، والأستاذية للأمم، فهي أمة لم تنشأ بنفسها ولا لنفسها فحسب، بل أخرجت للناس، أخرجها الله الذي جعلها خير أمة وخاطبها بقوله سبحانه:
(وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس).
ومن هنا وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم حين أتيحت له أول فرصة ـ بعد صلح الحديبية ـ كتب إلى مملوك العالم وأمراء الأقطار في أركان الأرض يدعوهم إلى الله، والانضواء تحت راية التوحيد، وحملهم إثم أنفسهم وإثم رعيتهم إذا تخلفوا عن ركب الإيمان، وكان يختم رسائله بهذه الآية: (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون).

إن أول ما تحتاج إليه الدعوة الإسلامية في هذا العصر أن تقوم "دار للإسلام" أو "دولة للإسلام" تتبنى رسالة الإسلام عقيدة ونظاما، وحياة وحضارة. وتقيم حياتها كلها: المادية والأدبية، على أساس من هذه الرسالة الشاملة، وتفتح بابها لكل مؤمن يريد الهجرة من ديار الكفر والظلم والابتداع.
هذه الدولة المنشودة ضرورة إسلامية، وهي أيضا ضرورة إنسانية، لأنها ستقدم للبشرية المثل الحي، لاجتماع الدين والدنيا، وامتزاج المادة بالروح، والتوفيق بين الرقي الحضاري، والسمو الأخلاقي، وتكون هي اللبنة الأولى لقيام دولة الإسلام الكبرى، التي توحد الأمة المسلمة تحت راية القرآن، وفي ظل خلافة الإسلام. ولكن القوى المعادية للإسلام، تبذل جهودا جبارة مستميتة دون قيام هذه الدولة في أي رقعة من الأرض، وإن صغرت مساحتها وقل سكانها.
قد يسمح الغربيون بدولة ماركسية، وقد يسمح الشيوعيون بدولة ليبرالية، ولكن لا هؤلاء ولا أولئك يسمحون بدولة إسلامية صحيحة الإسلام، ولا غرو أن نراهم اليوم يوجهون رماحهم وسهامهم إلى دولة السودان، لإعلانها التمسك بالإسلام عقيدة وشريعة. وكذلك حالوا في الجزائر بين الإسلاميين والوصول إلى الحكم، رغم فوزهم بالأغلبية في انتخابات حرة في ظل التعددية الديمقراطية.
وحين تقوم حركة إسلامية ناجحة، يخشى أن تتحول إلى دولة، سرعان ما توجه إليها قوى الكفر ـ العالمية والمحلية ـ ضرباتها المحمومة، من تشريد وتجويع وتعذيب وتقتيل، وتشويه وتمويه، ولا تكاد تفيق من ضربة حتى يباغتوها بأخرى، لتظل دائما في شغل بآلامها عن آمالها، وبمتاعبها عن مطالبها، وبجروحها عن طموحها.

0 التعليقات:

إرسال تعليق