hhhh

4587

5-الجمع بين الثبات والمرونة


من أجلى مظاهر "الوسطية"، التي تميزت بها رسالة الإسلام، وبالتالي يتميز بها مجتمعه عن غيره: التوازن بين الثبات والتطور، أو الثبات والمرونة.
فهو يجمع بينهما في تناسق مبدع، واضعا كلا منهما في موضعه الصحيح.. الثبات فيما يجب أن يخلد ويبقى، والمرونة فيما ينبغي أن يتغير ويتطور.

وهذه الخصيصة البارزة لرسالة الإسلام، لا توجد في شريعة سماوية ولا وضعية.
فالسماوية ـ عادة ـ تمثل الثبات، بل الجمود أحيانا، حتى سجل التاريخ على كثير من رجالاتها وقوفهم في وجه الحركات العلمية، والتحريرية الكبرى، ورفضهم لكل جديد في ميدان الفكر أو التشريع أو التنظيم.
وأما الشرائع الوضعية، فهي تمثل ـ عادة ـ المرونة المطلقة، ولهذا نراها في تغير دائم، ولا تكاد تستقر على حال، حتى الدساتير التي هي أم القوانين، كثيرا ما تلغى بجرة قلم، من حاكم متغلب، أو مجلس للثورة، أو برلمان منتخب، انتخابا صحيحا أو زائفا، حتى يصبح الناس ويمسوا وهم غير مطمئنين إلى ثبات أي مادة، أو قاعدة قانونية، كانت بالأمس موضع التجلة والاحترام.
ولكن الإسلام، الذي ختم الله به الشرائع والرسالات السماوية، أودع الله فيه عنصر الثبات والخلود، وعنصر المرونة والتطور معا، وهذا من روائع الإعجاز في هذا الدين، وآية من آياته عمومه وخلوده، وصلاحيته لكل زمان وكل مكان.
ونستطيع أن نحدد مجال الثبات، ومجال المرونة، في شريعة الإسلام ورسالته الشاملة الخالدة، فنقول:
إنه الثبات على الأهداف والغايات، والمرونة في الوسائل والأساليب.
الثبات على الأصول والكليات، والمرونة في الفروع والجزئيات.
الثبات على القيم الدينية والأخلاقية، والمرونة في الشؤون الدنيوية والعلمية.

إن للثبات والمرونة مظاهر ودلائل شتى، نجدها في مصادر الإسلام، وشريعته وتاريخه.
يتجلى هذا الثبات في "المصادر الأصلية النصية القطعية للتشريع" من كتاب الله، وسنة رسوله، فالقرآن هو الأصل والدستور، والسنة هي الشرح النظري، والبيان العملي للقرآن وكلاهما مصدر إلهي معصوم، لا يسع مسلما أن يعرض عنه: (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول)، (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا).
وتتجلى المرونة في "المصادر الاجتهادية" التي اختلف فقهاء الأمة في مدى الاحتجاج بها ما بين موسع ومضيق ومقال ومكثر، مثل: الإجماع، والقياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة، وأقوال الصحابة، وشرع من قبلنا، وغير ذلك من مآخذ الاجتهاد، وطرائق الاستنباط.
وفي أحكام الشريعة نجدها تنقسم إلى قسمين بارزين:
قسم يمثل الثبات والخلود.
وقسم يمثل المرونة والتطور.
نجد الثبات يتمثل في العقائد الأساسية الخمس، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهي التي ذكرها القرآن في غير موضع كقوله: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين)، (ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا).
وفي الأركان العملية الخمسة من الشهادتين وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام، وهي التي صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإسلام بني عليها.
وفي المحرمات اليقينية من السحر، وقتل النفس، والزنى، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والتولي يوم الزحف والغصب والسرقة والغيبة والنميمة وغيرها مما يثبت بقطعي القرآن والسنة.
وفي أمهات الفضائل من الصدق، والأمانة، والعفة، والصبر، والوفاء بالعهد، والحياء وغيرها من مكارم الأخلاق التي اعتبرها القرآن والسنة من شعب الإيمان.
وفي شرائع الإسلام القطعية في شؤون الزواج، والطلاق، والميراث والحدود، والقصاص، ونحوها من نظم الإسلام التي ثبتت بنصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة فهذه الأمور ثابتة، تزول الجبال ولا تزول.
يقول الإمام ابن القيم في كتابه "إغاثة اللهفان":
"الأحكام نوعان:
نوع: لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك، فهو لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.
والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا، كمقادير التعزيزات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها حسب المصلحة، وقد ضرب ابن القيم لذلك عدة أمثلة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين المهديين من بعده ـ ثم قال:
"وهذا باب واسع، اشتبه فيه على كثير من الناس الأحكام الثابتة اللازمة التي لا تتغير، بالتعزيزات التابعة للمصالح وجودا وعدما".

والذي يتدبر القرآن الكريم، يجد في نصوصه المقدسة دلائل جمة، على هذه الخصيصة البارزة، من خصائص الأمة المسلمة، وهي:
الجمع بين الثبات والمرونة جمعا متوازنا عادلا.
وإذا كان بالمثال يتضح المقال، فلا بأس أن نذكر هنا بعض الأمثلة التي توضح ما قلناه:
أ. يتمثل الثبات في مثل قوله تعالى في وصف مجتمع المؤمنين: (وأمرهم شورى بينهم)، وفي قوله لرسوله: (وشاورهم في الأمر)، فلا يجوز لحاكم، ولا لمجتمع، أن يلغي الشورى من حياته السياسية والاجتماعية، ولا يحل لسلطان أن يقود الناس رغم أنوفهم إلى ما يكرهون، بالتسلط والجبروت.
وتتمثل المرونة، في عدم تحديد شكل معين للشورى، يلتزم به الناس في كل زمان وفي كل مكان فيتضرر المجتمع بهذا التقييد الأبدي، إذا تغيرت الظروف بتغير البيئات أو الأعصار أو الأحوال، فيستطيع المؤمنون في كل عصر أن ينفذوا ما أمر الله به من الشورى بالصورة التي تناسب حالهم وأوضاعهم، وتلائم موقعهم من التطور، دون أي قيد يلزمهم بشكل جامد.
ب. يتمثل الثبات في قوله تعالى: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)، (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك)، فأوجب التقيد بالعدل والالتزام بكل ما أنزل الله، والحذر من اتباع الأهواء، وكل هذا مما لا مجال للتساهل فيه، هو يمثل جانب الثبات قطعا في مجال الحكم والقضاء.
وتتمثل المرونة في عدم الالتزام بشكل معين للقضاء والتقاضي، وهل يكون من درجة أو أكثر؟ وهل يسير على أسلوب القاضي المفرد أم على أسلوب المحكمة الجماعية؟ وهل يكون هناك محكمة جنايات وأخرى للمدنيات.. الخ، كل هذا متروك لاجتهاد أولي الأمر، وأهل الحل والعقد في مثل هذه الأمور، وليس للشارع قصد فيه إلا إقامة العدل، ورفع الظلم، وتحقيق المصلحة، ودرء المفسدة.
لقد اهتم الشارع بالنص على المبدأ والهدف، ولكنه لم يعتن بالنص على الوسيلة والأسلوب، وذلك ليدع الفرصة، ويفسح الطريق للإنسان كي يختار لنفسه الأسلوب المناسب، والصورة الملائمة لزمنه وبيئته، ووضعه وحالته.


وإذا تأملنا في السنة المطهرة ـ قولا وفعلا وتقريرا ـ وجدناها حافلة بشتى الأمثلة والدلائل التي يتمثل فيها الثبات والمرونة جنبا إلى جنب.
(أ) يتمثل الثبات في رفضه ـ صلى الله عليه وسلم ـ التهاون أو التنازل في كل ما يتصل بتبليغ الوحي أو يتعلق بكليات الدين، وقيمه، وأسسه العقائدية والأخلاقية.
ومهما حاول المحاولون أن يثنوا عنانه عن شيء من ذلك بالمساومات، أو التهديدات، أو غير ذلك من أنواع التأثير على النفس البشرية، فموقفه هو الرفض الحاسم، الذي علمه إياه القرآن في مواقف شتى. فحين عرض عليه المشركون، أن يلتقوا في منتصف الطريق، فيقبل شيئا من عبادتهم ويقبلوا شيئا من عبادته، لو يعبد آلهتهم مدة، ويعبدوا إلهه مدة كان الجواب الحاسم يحمله الوحي الصادق في سورة قطعت كل المساومات وحسمت كل المفاوضات، وهي قوله تعالى: (قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين).
ولما تلا عليهم آيات الله بينات، منكرة عليهم شركهم وعنادهم، ناعية ضلالهم وجحودهم، قالوا له صلى الله عليه وسلم: (ائت بقرآن غير هذا أو بدله)، فكان الرد القاطع، تلقينا من الله تعالى لرسوله: (قل: ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي، إن اتبع إلا ما يوحى إلي، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب روم عظيم، قل: لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به، فقد لبثت فيكم عمرا من قبله، أفلا تعقلون)؟
وهكذا تعلم ـ صلى الله عليه وسلم ـ من وحي الله: أن لا تنازل ولا تساهل في أمور العقيدة وما يتصل بها.
وفي مقابل ذلك، نجد مرونة واسعة في مواقف السياسة و "التكتيك" ومواجهة الأعداء، بما يتطلبه الموقف المعين، من حركة ووعي وتقدير لكل الجوانب والملابسات، دون تزمت أو تشنج أو جمود.
نجده في يوم الأحزاب مثلا يأخذ برأي (سلمان) في حفر الخندق حول المدينة، ويشاور بعض رؤساء الأنصار في إمكان إعطاء بعض المهاجمين مع قريش جزءا من ثمار المدينة، ليردهم ويفرقهم عن حلفائهم، كسبا للوقت إلى أن يتغير الموقف.
ويقول لنعيم بن مسعود الأشجعي ـ وقد أسلم، وأراد الانضمام إلى صفوف
المسلمين ـ "إنما أنت رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت" فيقوم الرجل بدور له شأنه في التفريق بين قريش وغطفان ويهود بني قريظة.
وفي يوم الحديبية تتجلى المرونة النبوية بأروع صورها.
تتجلى في قوله ذلك اليوم: "والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها".
وفي قبوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يكتب في عقد الصلح: "باسمك اللهم" بدل (بسم الله الرحمن الرحيم) وهي تسمية فضها قريش.
وفي قبوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يمحو كلمة "رسول الله" بعد اسمه الكريم، على حين رفض (علي) رضي الله عنه أن يمحوها بعد كتابتها.
وفي قبوله من الشروط ما في ظاهره إجحاف بالمسلمين، وإن كان في عاقبته الخير كل الخير.
والسر في هذه المرونة هنا، والتشدد في المواقف السابقة: أن المواقف الأولى تتعلق بالتنازل عن العقيدة والمبدأ، فلم يقبل فيها أي مساومة أو تساهل، ولم يتنازل قيد أنملة عن دعوته. أما المواقف الأخيرة فتتعلق بأمور جزئية، وبسياسات وقتية، أو بمظاهر شكلية، فوقف فيها موقف المتساهل.
(ب) يتمثل الثبات والمرونة معا في موقفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من وفد ثقيف وقد عرضوا عليه أن يدخلوا الإسلام ـ ولكنهم سألوه أن يدع لهم (الطاغية) ـ وهي (اللات) التي كانوا يعبدونها في الجاهلية ـ ثلاث سنين فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك عليهم، فما برحوا يسألونه سنة سنة، ويأبى عليهم حتى سألوه شهرا واحدا بعد مقدمهم فأبى عليهم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها.
وقد كانوا سألوه مع ترك (الطاغية)، أن يعفيهم من الصلاة، وألا يكسروا أوثانهم بأيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه، وأما الصلاة فإنه لا خير في دين لا صلاة فيه".
فهو صلى الله عليه وسلم أمام العقائد والمبادئ لا يتنازل ولا يترخص ولا يتسامح، كما في أمر (الطاغية) وأمر الصلاة. وأما في الكيفيات والجزئيات ففيها متسع للترخص والمسامحة كما في كسر الأوثان بأيديهم فهو أمر لا يتعلق بالمبدأ، بل بطريقة التنفيذ.

ولا عجب بعد ما ذكرنا من هدى القرآن، وسنة الرسول، ومواقف الصحابة، من الثبات والمرونة ـ أن نجد الفقه الإسلامي، بمختلف مدارسه ومذاهبه، يسير في نفس هذا الاتجاه ثابتا على الأصول والكليات، مرنا متطورا في الفروع والجزئيات.
إنه لا يعطي المسلم حرية مطلقة في تنظيم حياته ولو على حساب عقائده وقيمه ومفاهيمه، كما أنه لا يقيده في كل شئونه بتشريعات مفصلة دائمة، لا يستطيع الفكاك منها.
فالفقيه المسلم، مقيد حقا بالنصوص المحكمة الثابتة من القرآن والسنة، وهي المجزوم بثبوتها، القواطع في دلالتها، التي أراد الشارع الحكيم أن تلتقي عندها الأفهام، ويرتفع عندها الخلاف، وينعقد عليها الإجماع، فهي أساس الوحدة الفكرية والسلوكية، للمجتمع المسلم، وهي للأمة كالجبال للأرض تمسكها أن تميد، وتحميها أن تضطرب وتتزلزل، وهذا النوع من النصوص قليل جدا بالنسبة إلى سائر النصوص.
ومع هذا التقيد الملزم، يجد الفقيه المسلم نفسه في حرية واسعة أمام منطقتين فسيحتين، من مناطق الاجتهاد وإعمال الرأي والنظر.

أما المنطقة الأولى، فهي ما يمكن تسميته: "منطقة الفراغ التشريعي" تلك المنطقة التي تركتها النصوص ـ قصدا ـ لاجتهاد أولي الأمر والرأي، وأهل الحل والعقد في الأمة، بما يحقق المصلحة العامة، ويرعى المقاصد الشرعية، من غير أن يقيدنا الشارع فيها بأمر أو نهي. وهي المنطقة التي يسميها بعض الفقهاء "العفو" تبعا لما جاء في بعض الأحاديث: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، ما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا، وتلا: (وما كان ربك نسيا)".
وفي حديث آخر: "إن الله حد حدودا فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها".
فالحدود التي قدرها الشرع، لا يجوز اعتداؤها، مثل تحديد الطلاق الذي تجوز بعده الرجعة بمرتين، وتحديد عدة المطلقة بثلاثة قروء أو بضع الحمل، وتحديد أنصبة الورثة في تركة الميت، وتحديد نصاب الزكاة ومقدار الواجب فيها، وكذلك العقوبات المقدرة بمئة جلدة، أو بثمانين، أو بقطع اليد ونحوها.
ومثل ذلك الفرائض التي أوجبها الله كالعبادات الأربع التي هي أركان الإسلام، ومبانيه العظام، ومثل ذلك الجهاد، والأمر المعروف والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجار، وأداء الأمانات، والحكم بالعدل وغيرها.
وكذلك المحرمات اليقينية، التي أشرنا إليها من قبل، مثل: الشرك والسحر، والقتل، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات، والزنى وشرب الخمر، والسرقة وشهادة الزور، ونحوها.
وما عدا هذه الحدود والفرائض والمحرمات، فهي أمور مسكوت عنها، متروكة للاجتهاد، رحمة بالأمة، وتيسيرا وتوسعة عليها، وبهذا تجد أمامها مجالا رحبا مرنا، تتحرك فيه بيسر وسهولة دون أن تشعر بالإثم في دينها، أو الحرج في دنياها.
أما كيف تملأ الأمة هذا "الفراغ التشريعي" أو "منطقة العفو" التي تركتها النصوص قصدا، كما قلنا، فهناك طرائق ومسالك عديدة يختلف في تقديرها وفي الأخذ بها فقهاء الشريعة ما بين قابل ورافض، ومطلق ومقيد، ومقل ومكثر.
هناك القياس بقيوده وشروطه وإن خالف فيه بعض المعتزلة والظاهرية والأمامية.
هناك الاستصلاح أو اعتبار المصلحة المرسلة، وهي التي لم يجئ نص خاص من الشارع باعتبارها ولا بإلغائها، واشتهر الأخذ بها عند المالكية، وإن كانت المذاهب الأربعة كلها قد أخذت بها عند التحقيق والتطبيق، كما يتضح ذلك بالقراءة والاستقراء لكتب كل مذهب.
هناك اعتبار العرف بقيوده وشروطه، ولهذا كان من القواعد الكلية الشرعية: أن العادة محكمة، وأن المعروف عرفا كالمشروط نصا.

والثانية: منطقة النصوص المتشابهات، التي اقتضت حكمة الشارع أن تجعلها هكذا محتملات، تتسع لأكثر من فهم، وأكثر من رأي، ما بين موسع ومضيق، وما بين قياسي وظاهري، وما بين متشدد ومترخص، وما بين واقعي ومفترض.
وفي كل هذا فسحة وسعة لمن أراد الموازنة والترجيح وأخذ أقرب الآراء إلى الصواب، وأولاها بتحقيق مقاصد الشرع، فقد يصلح رأي لزمن ولا يصلح لآخر، أو يصلح لبيئة ولا يصلح لأخرى، أو يصلح لحال ولا يصلح لغيره.
وهكذا نجد في النظام الإسلامي مواضع اجتماعية لم يختلف فيها اثنان من علماء الأمة وهي الأسس الثابتة، التي يرتكز عليها بناء النظام الإسلامي، مثل ملكية الأرض للأفراد، وجواز استغلالها وشرعية توارثها، فهذا مما لم يخالف في ثبوته ومشروعيته أحد من فقهاء المسلمين.
ولكن إذا جئنا إلى طريقة استغلال الأرض، وجدنا مذاهب وأقوالا شتى، يستند كل منها إلى أدلة شرعية محتملة للتضعيف والترجيح.
فهناك من يقول بمنع المزارعة، وبإباحة المؤاجرة استنادا إلى ما ورد في ذلك من آثار، وإلى المشروعية العامة للإيجار والاستئجار في سائر الأشياء، ومنهم من عكس فأباح المزارعة لما صح من معاملة النبي لأهل خيبر على أساسه ولما فيها من المشاركة في المغنم والمغرم، ولكنه منع المؤاجرة لما فيها من مخاطرة بالبذور والنفقة والجهد دون فائدة محققة للمستأجر مع الربح المحقق للمالك، أما المزارعة ففيها اشتراك في الغنم والغرم قل أو كثر.
وهناك من يجيز المزارعة والمؤاجرة جميعا، بشرط ألا تشتمل المزارعة على شرط فاسد، لأنه لم يصح عنده نهى مطلق عن هذه أو تلك.
وبعضهم يوجب في المؤاجرة أن يضع المالك من الأجرة في حالة الجوائح والآفات تصيب الزرع وفقا لقدر الخسارة، لما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح.
وهناك من لا يجيز المزارعة ولا المؤاجرة جميعا، ويوجب على المالك أحد أمرين:
إما أن يزرع أرضه بنفسه وأدواته.
وإما أن يعيرها لغيره ليزرعها بدون مقابل، أخذا بحديث: "من كانت له أرض فليزرعها أو يمنحها أخاه" متفق عليه.
أية مرونة، وأية سعة، يجدها الفقيه المسلم، وبالتالي المجتمع المسلم إزاء هذه الآراء المتنوعة، وهذه الخصوبة الفقهية المثرية؟
إن لكل رأي من هذه الآراء مستندة الفقهي، ودليله الشرعي، ولكل منها وجهة معتبرة.
ويمكننا أن نأخذ بما نراه أرجح وأقوى وأدنى إلى تحقيق المصلحة بالنظر إلى ظروف مجتمعنا وعصرنا، دون أن ينكر علينا فقيه واحد، لأن من المتفق عليه: أنه لا إنكار على مجتهد في المسائل الاجتهادية.
فهذه هي شريعة الإسلام: لو شاء الله لجعل أحكامها كلها منصوصا عليها نصا قطعي الثبوت قطعي للدلالة، وبذلك لا يكون هناك مجال لاجتهاد أو استنباط، ولاختلاف المشارب وتعدد المدارس، وتطور الآراء، وتغير الفتوى بتغيير الزمان والمكان والحال، وإنما هو حكم واحد ثابت مؤيد.

ومن هنا لم يجد المحققون من فقهاء المسلمين، في مختلف العصور أي غضاضة أو حرج في إعلان وجوب تغير الفتوى، بتغير الأزمنة والأمكنة والأعراف والأحوال.
يقول الإمام ابن القيم في فصل تغير والفتوى واختلافها بحسب ما ذكرناه:
"هذا فصل عظيم النفع جدا، وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ـ ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها التأويل".
وكذلك كتب الإمام القرافي المالكي في كتابه "الأحكام" مبينا أن استمرار الأحكام، التي مدركها العرف والعادة ـ مع تغير تلك العوائد ـ خلاف الإجماع وجهالة في الدين.
كما عالج ذلك في كتابه "الفروق" بهذه الروح نفسها.
وفي القرن الثالث عشر الهجري، كتب علامة متأخري الحنفية "ابن عابدين" رسالته المشهورة (نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف) مستخلصا أحكامها مما قرره علماء المذهب أنفسهم وأفتوا به في مختلف الأعصار.
وقد ذكر في هذه الرسالة النافعة: أن كثيرا من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو لفساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولا، للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد.
ولهذا نرى مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد، (إمام المذهب) في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه، لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به، أخذا من قواعد مذهبه.
ومن أمثلة ما تغيرت فيه الفتوى والحكم بتغير البيئات، والأزمان، والأحوال:
ما وقع من عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ إذ كان واليا على المدينة، فكان يحكم للمدعى بدعواه، إذا جاء بشاهد واحد، وحلف اليمين، فيعد يمين المدعي قائمة مقام الشاهد الثاني فلما ولى الخلافة، وأقام في عاصمة الدولة بالشام لم يحكم إلا بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين فسئل في ذلك فقال: لقد وجدنا أهل الشام على غير ما عليه أهل المدينة.
وما فعله عمر في الشام لا ينافي ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى بشاهد ويمين، فإن قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بذلك يدل على جوازه ومشروعيته، ولا يدل على الوجوب والإلزام، فيجوز القضاء بالشاهد الواحد مع اليمين في بعض الحالات، وتركه في حالات أخرى بناء على اعتبارات صحيحة، كما فعل عمر بن عبد العزيز.
كما أنه من المجازفة ـ وقد صح حديث الشاهد مع اليمين ـ أن يرد الحديث ردا مطلقا، ويمنع العمل به في أي حال من الأحوال.

1 التعليقات:

بارك الله بك على هذه المقالة القيمة حول الوسطية في الاقتصاد الاسلامي

إرسال تعليق