وإذا كان كل من القرآن والسنة مصدرا ربانيا للهداية والتشريع، فما لا ريب فيه أنهما ليسا بمنزلة واحدة، وأن بينهما فروقا أساسية:
(أ) فالقرآن كله قطعي الثبوت، لأنه منقول بالتواتر اليقيني، جيلا عن جيل، أما السنة فأقلها ما ثبت بالتواتر، وأكثرها إنما ثبت بطريق الآحاد.
(ب) القرآن كله ثبت بطريق الوحي الجلي بواسطة نزول أمين الوحي ـ جبريل عليه السلام ـ على قلب النبي صلى الله عليه وسلم: كما نطق بذلك القرآن نفسه: (نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين).
أما السنة فمنها ما ثبت بطريق الإلهام والنفث في الروع، وما ثبت بالرؤيا الصادقة، وكلا الطريقين ليس من الوحي الجلي. ومنها ما يثبت بطريق الاجتهاد، الذي يقره الله تعالى عليه، وهي ما يسمى "الوحي الباطن"، فإن الله تعالى لا يقره على خطأ، حتى لا يتبع فيه.
(ج) القرآن لفظه ومعناه من الله تعالى، أما السنة ـ أعني القولية منها ـ فلفظها من النبي صلى الله عليه وسلم. ولهذا لا يجوز رواية القرآن بالمعنى، بخلاف الحديث، أو السنة.
(د) القرآن محفوظ بجملته وتفصيله، بألفاظه ومعانيه، بصريح وعد الله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).
أما السنة فهي محفوظة ضمنا، بحفظ الله القرآن، باعتبارها بيانا له، وحفظ المبين يستلزم حفظ ما يبينه، كما أن حفظ السنة إنما هو حفظ لها في الجملة لا في التفصيل.
(هـ) القرآن متميز بالإعجاز، فهو الآية العظمى لمحمد صلى الله عليه وسلم، بخلاف الحديث، وإن كان في قمة البلاغة البشرية.
السنة ـ إذن ـ مبينة للقرآن، أو مؤكدة له، أو شارعة لأحكام مستقلة في إطار مقاصده وكلياته، وليست معارضة له، ولا توجد سنة صحيحة صريحة تعارض القرآن. وما وجد من ذلك فلا بد أنه صحيح غير صريح، أو صريح غير صحيح. وغير الصحيح لا اعتبار له، وغير الصريح يجب تأويله بما يتفق مع القرآن، لأن القرآن هو الأصل، والفرع لا يخالف أصله.
ويحسن بي أن أنقل هنا ما ذكره المحقق ابن القيم في "إعلام الموقعين" عن علاقة السنة بالقرآن، قال: "والسنة مع القرآن على ثلاثة أوجه:
أحدهما: أن تكون موافقة له من كل وجه، فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتضافرها.
الثاني: أن تكون بيانا لما أريد بالقرآن وتفسيرا له.
الثالث: أن تكون موجبة الحكم سكت القرآن عن إيجابه أو محرمة لما سكت عن تحريمه. ولا تخرج عن هذه الأقسام، فلا تعارض القرآن بوجه ما.
فما كان منها زائدا على القرآن فهو تشريع مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم تجب طاعته فيه، ولا تحل معصيته، وليس هذا تقديما لها على كتاب الله، بل امتثال لما أمر الله به من طاعة رسوله، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطاع في هذا القسم لم يكن لطاعته معنى، وسقطت طاعته المختصة به، وأنه إذا لم تجب طاعته إلا فيما وافق القرآن لا فيما زاد عليه، لم يكن له طاعة خاصة تختص به، وقد قال الله تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله).
هذه هي منزلة السنة من الكتاب: منزلة البيان من المبين، فالقرآن هو الأصل والسنة شارحته وموضحته، وكل ما في السنة يرجع إلى الكتاب، بوجه من الوجوه، وقد أوضح ذلك الإمام الشاطبي في الموافقات، وأقام عليه الأدلة، وضرب له الأمثلة.
فتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، أو المرأة وخالتها، مثلا ـ إنما هو ضرب من القياس على حكم القرآن في تحريم الجمع بين الأختين، للاشتراك في العلة التي نبه عليها الحديث بقوله: "إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم".
وتوريث الجدة نصيب الأم عند فقد الأم قياس لها على الأم، فهي أم من وجه.
وتحريم كل ذي ناب من السباع تطبيق لقوله تعالى: (ويحرم عليهم الخبائث)، كما أشار إلى ذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه.
وتحريم الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة، وما في معناها تطبيق لما حفل به القرآن من الحملة على الترف والمترفين، واعتبار الترف من أسباب الفساد والانحلال للأمة حتى يدمرها تدميرا.
وتحريم الخلوة بالأجنبية تطبيق لقول القرآن: (ولا تقربوا الزنى، إنه كان فاحشة وساء سبيلا)، لأن النهي بقوله: (ولا تقربوا) يعني النهي عن مقدمات الزنى، والخلوة منه.
ومثل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن مع شارب الخمر تسعة آخرين، وذلك يدخل في قوله تعالى عن الخمر: (رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه)، والاجتناب أبلغ من مجرد الترك، فيتضمن العصر والسقي والحمل والبيع وما في معناها.
وقال ابن برجان: ما قال النبي صلى الله عليه وسلم من شيء فهو في القرآن، وفيه أصله، قرب أو بعد، فهمه من فهمه، وعمه عنه من عمه، قال تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء).
فليس من السنة في شيء خارج عن القرآن، فضلا عن شيء يخالفه ويعارضه. وإنما فيها ما يبين إجماله، أو يخصص عمومه، أو يقيد إطلاقه.
والحمد لله رب العالمين أولا وآخرا.
0 التعليقات:
إرسال تعليق