hhhh

4587

4- بناء الأمة الصالحة


من أهداف الإسلام الأساسية: تكوين (أمة) متميزة، تطبق رسالته، وتؤسس حياتها على عقيدته وشريعته ومثله، وتربي أجيالها على هداه، وتحمل رسالته إلى العالم كله، فتحمل معها الرحمة والنور والخير للبشرية كلها، كما قال تعالى لرسوله: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، ولم يكن تكوين هذه الأمة بالأمر السهل في ظروف نشأة الإسلام المعروفة، فقد ولد الإسلام في جزيرة العرب، وهي قائمة على القبلية والعصبية لها. فالقبيلة هي أساس الولاء، ومصدر الاعتزاز والانتماء، فلا مكان لابن القبيلة إلا بها، بل لا وجود له إلا بها، فهي النسب والحسب، وهي السلطة والقوة، وهي الاقتصاد والسياسة، يرضى برضاها، ويغضب بغضبها، أو بغضب شيخها، ويتعصب لابن القبيلة محقا كان أو مبطلا، شعار كل واحد فيها: "انصر أخاك ـ أي ابن القبلية ـ ظالما أو مظلوما" بالمعنى الظاهري للعبارة، ولقد وصف أحدهم زعيم قبيلة كبيرة بقوله: إنه رجل إذا غضب غضب له مائة ألف سيف لا يسألونه: فيم غضب؟!

وكل قبيلة تحاول أن تستعلي على القبيلة الأخرى، وتنقص من أطرافها، ولهذا كثرت الغارات من بعضهم على بعض،حتى قال قائلهم:
وأحيانا على بكر أخينا إذا لم نجد إلا أخانا!
فلما جاء الإسلام نقلهم نقلة كبيرة في عالم الفكر، وعالم الشعور، وعالم الواقع، نقلهم من سجن القبلية الضيقة، إلى باحة الأمة الواسعة. وحذر أشد التحذير من الدعوة إلى العصبية بكل ألوانها، وخصوصا العصبية للقبيلة.
وفي الحديث: "ليس منا من دعا إلى عصبية، أو قاتل على عصبية، أو مات على عصبية".
"من قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقتل، فقتلته جاهلية".
وسئل صلى الله عليه وسلم عن "العصبية" فقال: "أن تعين قومك على الظلم"، ففسرها بأثرها في واقع المجتمع القبلي، فصاحب العصبية مع جماعة وإن جاروا وظلموا، وضد خصومهم وأن بروا وأقسطوا أو أوذوا وظلموا، على خلاف ما جاء به الإسلام من القيام بالقسط: (ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين)، (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا).
وفي لحظة من لحظات الضعف البشري، أطلت النزعة القبلية عند بعض الصحابة، فتنادوا بأسماء قبائلهم: يا بني فلان، ويا بني علان. فغضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد الغضب، وقال: "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم"؟!
وقال عن دعوة العصبية كلمته المعبرة: "دعوها فإنها منتنة".
لقد أراد الإسلام أن يبني "أمة" على أساس العقيدة والفكرة، وليس على أي أساس مادي أو أرضي مما يبني عليه البشر أممهم، من عنصر أو لون أو لغة أو أرض، مما ليس للإنسان فيه إرادة واختيار. بل هو قدر مفروض عليه، فلم يختر الإنسان جنسه ولا لونه ولا لغته ولا أرضه التي ولد فيها. إنما ورث هذا كله دون أن يكون له رأي فيه.
أما العقيدة.. فالأصل فيها أنها من اختيار الإنسان، وإيمان المقلد مشكوك في قبوله، بل مرفوض عند المحققين من علماء المسلمين.
أراد الإسلام للمسلمين أن يكونوا أمة تنتسب إلى الحق لا إلى زيد أو عمرو من البشر، فهي لا تقوم على رابطة عرقية ولا لونية ولا إقليمية ولا طبقية. بل هي أمة عقيدة ورسالة قبل كل شيء.
هي أمة الإسلام، أو أمة المسلمين كما قال تعالى: (هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس)، وهي أمة الإيمان أو أمة المؤمنين. ولهذا تنادى دائما بـ (يا أيها الذين آمنوا).

أبرز ما يميز عن غيرها من الأمم أوصاف أربعة ذكرها القرآن:
الأول: الربانية ـ ربانية المصدر، وربانية الوجهة. فهي أمة أنشأها وحي الله تعالى، وتعهدتها تعاليمه وأحكامه، حتى اكتمل لها دينها، وتمت به نعمة الله عليها كما قال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).
فالله تعالى هو صانع هذه الأمة. ولهذا نجد القرآن الكريم يقول: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا). فهذا التعبير "جعلناكم" يفيد أن الله هو جاعل هذه الأمة ومتخذها وصانعها.
ومثل ذلك قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس)، فتعبير "أخرجت" يدل على أن هناك مخرجا أخرج هذه الأمة، فهي لم تظهر اعتباطا، ولم تكن نباتا بريا ينبت وحده دون أن يزرعه زارع، بل هو نبات مقصود متعهد بالعناية والرعاية. والذي أخرج هذه الأمة وزرعها وهيأها لرسالتها هو الله جل شأنه.
فهي أمة مصدرها رباني، ووجهتها ربانية كذلك، لأنها تعيش لله، ولعبادة الله، ولتحقيق منهج الله في أرض الله. فهي من الله وإلى الله، كما قال تعالى لرسوله: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له).

والثاني: الوسطية.. التي تؤهل الأمة للشهادة على الناس، وتبوئها مكان الأستاذية للبشرية. وفيها جاءت الآية الكريمة: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا).
وهي وسطية شاملة جامعة: وسطية في الاعتقاد والتصور، ووسطية في الشعائر والتعبد، ووسطية في الأخلاق والسلوك، ووسطية في النظم والتشريع، ووسطية في الأفكار والمشاعر.
وسطية بين الروحية والمادية.. بين المثالية والواقعية.. بين الفردية والجماعية.
إنها الأمة التي تمثل "الصراط المستقيم" بين السبل المتعرجة والملتوية، صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض. صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، لا صراط المغضوب عليهم ولا الضالين.

والوصف الثالث: الدعوة. فهي أمة دعوة ورسالة، ليست أمة منكفئة على نفسها، تحتكر الحق والخير والهداية لذاتها، ولا تعمل على نشرها في الناس. بل الدعوة فريضة عليها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الإيمان بالله أساس تفضيلها على كل الأمم. كما قال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).
فهي لم ترجح سائر الأمم في ميزان الله لسبب مادي أو عنصري. كيف وهي تتكون من عناصر شتى، من كل من يدخل في دين الله من أجناس البشر عربا أو عجما؟
إنما رجحت في ميزان الحق، لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.
وقبل ذلك بآيات، قال الله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون).
ومعناها على أحد التفسيرين: اجعلوا من أنفسكم أمة الدعوة والأمر والنهي، فبهذا تستحقون أن يقصر الفلاح عليكم. و "من" هنا تجريدية لا تبغيضية.
وعلى التفسير الآخر: هيئوا منكم طائفة متماسكة قادرة على الدعوة والأمر والنهي. ولتسقط فرض الكفاية عنكم، وتكونوا أنتم عونا لها.
إن رسالة الإسلام رسالة عالمية، رسالة لكل الأجناس، ولكل الألوان، ولكل الأقاليم، ولكل الشعوب، ولكل اللغات، ولكل الطبقات. كما قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
(تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا).
(قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا).
وعلى الأمة المسلمة أن تدعو الناس جميعا إلى الإسلام بألسنتهم حتى نبين لهم، ونقيم الحجة عليهم، وأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، حتى لا تلعن كما لعن الذين من قبلها حين فرطوا في هذا الواجب: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون).

والوصف الرابع: الوحدة. فالأمة التي يريدها الإسلام أمة واحدة، وإن تكونت من عروق وألوان وطبقات، فقد صهرها الإسلام جميعا في بوتقته، وأذاب الفوارق بينها، وربطها بالعروة الوثقى لا انفصام لها.
يقول تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون).
ويقول سبحانه: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون).
وكيف لا تكون هذه الأمة واحدة، وقد وحد الله عقيدتها وشريعتها، وحد غايتها، ووحد منهاجها، كما قال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله).
أمة ربها واحد هو الله، ونبيها واحد هو محمد صلى الله عليه وسلم، وكتابها واحد هو القرآن، وقبلتها واحدة هي الكعبة البيت الحرام، وشريعتها واحدة هي شريعة الإسلام، ووطنها واحد هو "دار الإسلام" على اتساعها، وقيادتها واحدة تتمثل في "خليفة المسلمين" وأمير المؤمنين، الذي يجسم الوحدة السياسية للأمة.
ولهذا رفض الإسلام أن يكون للمسلمين خليفتان في وقت واحد، حرصا على وحدة الأمة، ومنعا لتفرق كلمتها، وشتات أمرها.
ولهذا لا يجوز أن نقول في تعبيرنا: الأمم الإسلامية، بل الأمة الإسلامية فهي أمة واحدة كما أمر الله، وليست أمما متفرقة، كما أراد الاستعمار.
يقول الله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا).
ويقول: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وأولئك لهم عذاب عظيم).
ولقد نبه القرآن على دسائس بعض أهل الكتاب الذين يسعون جهدهم لتمزيق شمل المسلمين، وإثارة النعرات العصبية بينهم، قال تعالى محذرا: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين).
وسبب نزول الآية الكريمة وما بعدها يدل على أن المقصود: يردوكم بعد وحدتكم متفرقين، وبعد أخوتكم متعادين.
إن وحدة الأمة توجب عليها أن تجعل أخوتها الإسلامية فوق كل العصبيات، فقد جعلها الله تعالى معبرة عن الإيمان ومجسدة له: (إنما المؤمنون إخوة).
وقال رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" أي لا يخذله عند الشدة أو عند الاعتداء عليه، بل ينصره ويسانده، وهذا هو مقتضى الأخوة. وهو ما يؤكده الحديث الآخر: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم".
ويحذر الإسلام أبلغ التحذير من تعادي أبناء الأمة الواحدة إلى حد أن يحارب بعضها بعضا، كما كانت تفعل القبائل الجاهلية. يقول صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"، "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر".

ومن المفيد هنا أن ننبه على قضية ذات شأن، وهي: أن الإيمان بـ "الأمة" المؤسسة على عقيدة الإسلام، وأخوة الإيمان، والتي تضم جميع المسلمين في رحابها حيث كانوا ـ لا ينفي أن هناك خصوصيات معينة لكل قوم، يعتزون بها، ويحافظون عليها، ولا يفرطون فيها، ولا مانع من ذلك إذا لم تتحول إلى عصبية عرقية تقاوم أخوة الإسلام، أو إلى نزعة أنانية انفصالية تهدد وحدة دولة الإسلام.
ولقد ترك الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده القبائل تقاتل تحت راياتها، تحت القيادة الإسلامية العامة، ليكون ذلك مصدرا إضافيا لحماسهم وإقدامهم، حتى لا يجلبوا العار على أقوامهم وعشائرهم.
إن حب الرجل لقومه وعشيرته ورغبته في جلب الخير لهم، ودفع الشر عنهم، نزعة فطرية لا غبار عليها، ولا خطر فيها. كما لا خطر في حبه لأسرته، واهتمامه بها، ولا غرو أن أمر الرسول بتعلم الأنساب لما وراءها من تواصل في الأرحام وإن تباعدت: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم".
وفي الحديث: "خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم".
إن الخطر إنما يتمثل فيما إذا وقف قومه موقفا معاديا للإسلام، وحادوا الله ورسوله، هنا تحرم الموادة والموالاة، ولو كانت لأقرب الناس للإنسان، كأمه وأبيه وزوجه وأخيه.
يقول تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم).
ويقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان، ومن يتولهم منكم أولئك هم الظالمون، قل إن كان أباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين).
لا بأس أن يحب الرجل أسرته، ويحب قومه وعشيرته، ولكن إذا تعارض ذلك مع حب الله ورسوله. فإن حب الله ورسوله أغلى من كل شيء. هنا يتغنى المسلم بقول القائل:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم!
هنا يقول المسلم ما قاله سلمان رضي الله عنه حين سئل: ابن من أنت؟ فقال: أنا ابن الإسلام!

ولقد كان هذا المعنى واضحا عند الإمام البنا، فلم يرفض فكرة "القومية" رفضا كليا، ولم يقبلها قبولا مطلقا، بل فصل فيها كما فصل في "الوطنية" قال رضي الله عنه:
"إن كان الذين يعتزون بمبدأ "القومية" يقصدون به أن الأخلاف يجب أن ينهجوا نهج الأسلاف في مراقي المجد والعظمة ومدارك النبوغ والهمة وأن تكون لهم بهم في ذلك قدوة حسنة، وأن عظمة الأب مما يعتز به الابن ويجد لها الحماس والأريحية بدافع الصلة والوراثة، فهو مقصد حسن جميل نشجعه ونأخذ به، وهل عدتنا في إيقاظ همة الحاضرين إلا أن نحدوهم بأمجاد الماضين؟ ولعل الإشارة إلى هذا في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الناس بأمجاد خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" فها أنت ذا ترى أن الإسلام لا يمنع من القومية بهذا المعنى الفاضل النبيل.
وإذا قصد بالقومية أن عشيرة الرجل وأمته أولى الناس بخيره وبره وأحقهم بإحسانه وجهاده فهو حق كذلك، ومن ذا الذي لا يرى أولى الناس بجهوده قومه الذين نشأ فيهم ونما بينهم؟
لعمري لرهط المرء خير بقية عليه وإن عالوا به كل مركب
وإذا قصد بالقومية أننا جميعا مبتلون مطالبون بالعمل والجهاد، فعلى كل جماعة أن تحقق الغاية من جهتها حتى تلتقي إن شاء الله في ساحة النصر فنعم التقسيم هذا، ومن لنا بمن يحدو الأمم الشرقية كتائب كل في ميدانها حتى نلتقي جميعا في بحبوحة الحرية والخلاص؟
كل هذا وأشباهه في معنى القومية جميل معجب لا يأباه الإسلام، وهو مقياسنا، بل ينفسح صدرنا له ونحض عليه.
أما أن يراد بالقومية إحياء عادات جاهلية درست، وإقامة ذكريات بائدة خلت وتعفية حضارة نافعة استقرت، والتحلل من عقدة الإسلام ورباطه بدعوى القومية والاعتزاز بالجنس، كما فعلت بعض الدول في المغالاة بتحطيم مظاهر الإسلام والعروبة، حتى الأسماء وحروف الكتابة وألفاظ اللغة، وإحياء ما اندرس من عادات جاهلية، فذلك في القومية معنى ذميم وخيم العاقبة وسيئ المغبة، يؤدي بالشرق إلى خسارة فادحة يضيع معها تراثه وتنحط بها منزلته ويفقد أخص مميزاته وأقدس مظاهر شرقه ونبله، ولا يضر ذلك دين الله شيئا: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم).
وأما أن يراد بالقومية الاعتزاز بالجنس إلى درجة تؤدي إلى انتقاص الأجناس الأخرى والعدوان عليها والتضحية بها في سبيل عزة أمة وبقائها، كما تنادي بذلك ألمانيا وإيطاليا مثلا، بل كما تدعي كل أمة تنادي بأنها فوق الجميع.فهذا معنى ذميم كذلك ليس من الإنسانية في شيء، ومعناه أن يتناحر الجنس البشري في سبيل وهم من الأوهام لا حقيقة له ولا خير فيه.
الإخوان المسلمون لا يؤمنون بالقومية بهذه المعاني ولا بأشباهها ولا يقولون فرعونية وعربية وفينيقية وسورية ولا شيئا من هذه الألقاب والأسماء التي يتنابز بها الناس، ولكنهم يؤمنون بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنسان الكامل بل أكمل معلم علم الإنسان الخير: "إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى". ما أروع هذا وأجمله وأعدله، الناس لآدم فهم في ذلك أكفاء، والناس يتفاضلون بالأعمال فواجبهم التنافس في الخير، دعامتان قويمتان لو بنيت عليهما الإنسانية لارتفعت بالبشر إلى علياء السموات، الناس لآدم فهم إخوان فعليهم أن يتعاونوا وأن يسالم بعضهم بعضا، ويرحم بعضهم بعضا، ويدل بعضهم بعضا على الخير، والتفاضل بالأعمال. فعليهم أن يجتهدوا كل من ناحيته حتى ترقى الإنسانية، فهل رأيت سموا بالإنسانية أعلى من هذا السمو أو تربية أفضل من هذه التربية؟

ثم يقول الأستاذ البنا رحمه الله: "ولسنا مع هذا ننكر خواص الأمم ومميزاتها الخلقية، فنحن نعلم أن لكل شعب مميزاته وقسطه من الفضيلة والخلق، ونعلم أن الشعوب في هذا تتفاوت وتتفاضل، ونعتقد أن العروبة لها من ذلك النصيب الأوفى والأوفر، ولكن ليس معنى هذا أن تتخذ الشعوب هذه المزايا ذريعة إلى العدوان، بل عليها أن تتخذ ذلك وسيلة إلى تحقيق المهمة السابقة التي كلفها كل شعب، تلك هي النهوض بالإنسانية، ولعلك لست واجدا في التاريخ من أدرك هذا المعنى من شعوب الأرض كما أدركته تلك الكتيبة العربية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وبهذا لم ير الإمام البنا أن يقيم تعارضا لا ضرورة له بين العروبة والإسلام.

0 التعليقات:

إرسال تعليق