hhhh

4587

6-الدعوة إلى خير الإنسانية


لا يفهم من دعوة الإسلام إلى إقامة (أمة متميزة) بأهدافها وقيمها ومناهجها، ذات رسالة متميزة، بمقوماتها ومثلها وخصائصها: أن الإسلام دين منغلق على نفسه، وأن أمته تعيش لنفسها، متقوقعة على ذاتها، لا تهتم بغيرها من الناس، صلحوا أو فسدوا، اهتدوا أو ضلوا، ارتقوا أو هبطوا.

كلا، فالإسلام منذ فجر دعوته كان رسالة عالمية، ودعوة للناس كافة، ورحمة لكل عباد الله، عربا كانوا أو عجما، ولكل بلاد الله، شرقا كانت أم غربا، وإلى جميع الألوان بيضا كانوا أم سودا.
في القرآن المكي نقرأ آيات كريمة من كتاب الله تقرر بوضوح عالمية الدعوة:
(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
(تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا).
(إن هو إلا ذكر للعالمين، ولتعلمن نبأه بعد حين).
(قل: لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين).
(قل: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا).
(وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا).
وأمة الإسلام مكلفة بحمل هذه الرسالة العالمية إلى العالم، فلا يجوز لها أن تحتكر الخير والنور لنفسها، بل عليها بعد أن اهتدت بنور الله أن تهدي الآخرين إليه، وبعد أن صلحت بالإيمان والعمل الصالح أن تصلح الأمم وتدعوها إلى الخير الذي أكرمها الله به.
ولهذا وصف الله أمة الإسلام وأثنى عليها في كتابه حين خاطبها بقوله: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).
فالتعبير القرآني بقوله: "أخرجت" يدل على أن هناك من أخرج هذه الأمة، وهو الله جل جلاله، فلم تنبت هذه الأمة من نفسها كنبات البرية، بل أنبتها منبت بذر بذرتها، وتولى رعايتها.
وهي لم تخرج لنفسها، بل أخرجت للناس، لهداية الناس، ولنفع الناس، وإصلاح الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
فهي ـ في المقام الأول ـ أمة دعوة ورسالة مبعوثة مما بعث به رسولها إلى الناس، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: "إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".
لهذا قال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون).
وسواء كانت (من) في قوله تعالى "منكم" للتجريد، بمعنى: لتكونوا جميعا أمة يدعون إلى الخير، كما تقول: ليكن لي منك الصديق الوفي، ليكن منك الأسد الهصور… أي لتكن أنت. أم كانت (من) للتبعيض، بمعنى: كونوا منكم أمة أي جماعة قوية مترابطة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف.. الخ.. فعلى كلا المعنيين: الأمة هي المسؤولة عن الدعوة والأمر والنهي، ولو بتكوين هذه الجماعة وتقويتها وإمدادها وتهيئتها لوظيفتها، ومراقبتها في أدائها، ولهذا خوطبت بهذا التكليف.
وهذا ما فقهه الصحابي الكريم ربعي بن عامر ـ رضي الله عنه ـ حين سأله رستم قائد جيوش الفرس في معركة القادسية: من أنتم؟ فقال له في عزة مؤمنة، وفي إيمان عزيز: نحن قوم ابتعثنا الله، لنخرج من نشاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا، إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
فلخص هذا الصحابي ـ الذي لم يتخرج في جامعة، ولم ينقب في الكتب، ولم يختلف إلى المعلمين ـ الأهداف الكلية الكبرى للإسلام في هذه الكلمات الموجزة، وإنما تعلمها في المدرسة المحمدية، التي خرجت هذه الصفوة من البشر، وهذه النماذج الربانية التي لم تر عين الدنيا مثلها.
كانت رسالة الإسلام العالمية (رحمة عامة) كما وصفها الله، ودعوة إلى خير الإنسانية، وهذه الرحمة أو هذا الخير يتجلى في جملة مبادئ أو قيم عليا دعا إليها الإسلام أهمها وأبرزها ما يلي:

1. تحرير الإنسان من العبودية للإنسان:
  1. أول هذه المبادئ: أن الإسلام ـ بدعوته إلى التوحيد الخالص، ومقاومته للشرك بكل ألوانه ومستوياته ـ حرر الإنسان من العبودية للإنسان، كما حرره من العبودية للأشياء، أو للأوهام، أو للذات.
    أسقط الإسلام الآلهة المزيفين الذين قدسهم الناس، واتخذوهم أربابا من دون الله أو مع الله، سواء كانوا من رجال الدين أم من رجال الدنيا والسلطان، كما قال تعالى في شأن أهل الكتاب: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحد، لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون).
    وكانت الآية التي ختم بها الرسول الكريم رسائله إلى قيصر والمقوقس والنجاشي، وغيرهم من أمراء النصارى قول الله تعالى: (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا أربابا من دون الله).
    وكانت هذه الكلمة "لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله" إيذانا بميلاد جديد للبشرية، فلا يتأله بعضهم على بعض، ولا ينحني بعضهم لبعض، ولا يسجد بعضهم لبعض، ارتفعت الجباه، فلا تسجد إلا لخالقها، واستقامت الظهور فلا تركع إلا لبارئها، وعز الناس فلا يذلون إلا الله الواحد القهار.
    الله وحده هو الذي تتجه إليه القلوب راجية خائفة، (يرجون رحمته ويخافون عذابه) وهو الذي تمتد إليه الأيدي والألسن سائلة ضارعة، وهو الذي يملك وحده العطاء والمنع، والخفض والرفع، والحياة والموت.
    وهو وحده الذي يملك حق التشريع المطلق للبشر، بحكم خلقهم إياهم، وإمدادهم بالنعم التي لا تحصى، فهو الذي يملك أن يحرم عليهم، وأن يحل لهم، فهو الذي (له الحكم)، و(له الخلق والأمر)، (أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا).

    2. الأخوة والمساواة الإنسانية:
ومن ثمار التوحيد الذي دعا إليه الإسلام: الأخوة البشرية، ومن لوازمها: المساواة الإنسانية.
وهذه الأخوة مبنية على أمرين:
الأول: أن الناس جميعا، بمقتضى دعوة التوحيد، عبيد لرب واحد، هو الذي خلقهم فسواهم، فهم متساوون في مرتبة العبودية لله.
والثاني: أنهم جميعا أبناء لأب واحد، فهم ـ مهما اختلفت ألوانهم تباعدت أوطانهم، وتباينت ألسنتهم وتفاوتت طبقاتهم ـ أبناء آدم. فهم متساوون في مرتبة البنوة لآدم.
وهذا ما بلغه النبي صلى الله عليه وسلم للأمة في حجة الوداع حين قال في جموع الناس: "أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب: لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى".
وقال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
وروى الإمام أحمد عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة هذه الدعوات الثلاث:
"اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه، أنا شهيد أنك الله وحدك لا شريك له".
"اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه، أنا شهيد أن محمدا عبدك ورسولك".
"اللهم ربنا رب كل شيء ومليكه، أنا شهيد أن العباد كلهم أخوة".
فهذا الدعاء النبوي الكريم يتضمن شهادات أساسية ثلاثا: أولاها: شهادة لله بالوحدانية، وثانيها: شهادة لمحمد بالعبودية والرسالة. وثالثها: شهادة للعباد كلهم بأنهم إخوة، فهي أخوة إنسانية عامة، والأخوة تتكون من عناصر ثلاثة: المحبة، والمساواة، والتعاون.
وقد يقول بعض الناس: إن الله تعالى يقول: (إنما المؤمنون إخوة)، ورسوله يقول: "المسلم أخو المسلم" فاعتبر الأخوة بالدين والإيمان لا بغيرها.
ونقول: إن الأخوة الدينية القائمة على الإيمان هي أخص أنواع الأخوة وأعمقها، ولكنها لا تنافي وجود الأنواع الأخرى من الأخوة، مثل الأخوة الوطنية والقومية، مثل قوله تعالى: (وإلى عاد أخاهم هودا)، (وإلى ثمود أخاهم صالحا)، (وإلى مدين أخاهم شعيبا)، (إذ قال لهم أخوهم نوح: ألا تتقون)، (إذ قال لهم أخوهم لوط: ألا تتقون)، فأثبت القرآن هذه الأخوة، بين هؤلاء الرسل، وأقوامهم، وهم مكذبون لهم، متمردون على رسالتهم، لأنهم منهم، وليسوا غرباء عنهم، فهي أخوة قومية.
وهناك الأخوة البشرية بين أبناء آدم عامة، وهي التي شهد بها الرسول في حديثه السابق.

3. العدل لجميع الناس:
  1. ومما دعا إليه الإسلام لخير الإنسانية: إقامة العدل بين الناس كل الناس، فليس عدلا للعرب وحدهم، إنما هو عدل للناس كلهم جميعا.
    يقول تعالى في بيان أهداف الرسالات السماوية: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)، وهكذا تبين أن إرسال الرسل، وإنزال الكتب إنما كانا لتحقيق هدف أساسي، هو: أن يقوم (الناس) بالقسط، وهو العدل، الذي به يعطي كل ذي حق حقه.
    وقال تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل).
    هكذا بهذا التعميم "إذا حكمتم بين (الناس) لا بين المسلمين فحسب.
    وقد أنزل الله تسع آيات في سورة النساء عتابا للرسول الكريم حين هم أن يدافع عن قوم من المسلمين الضعفاء أو من المنافقين، اتهموا يهوديا ظلما بالسرقة، ولم يكن هو بالسارق، وإنما هم السراق. قال تعالى:
    (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما، واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما، ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما..) الآيات.
    وقد أمر الله المؤمنين أن يقوموا بالقسط شهداء لله، لا يمنعهم من ذلك عاطفة حب لقريب، أو بغض لبعيد، فالعدل فوق عواطف المحبة والكره، ويجب أن يكون لله.
    يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين). فهذا هو العدل مع من تحب ولو كان أحد والديك أو أقرب أقربائك، بل لو كان نفسك ذاتها.
    ويقول سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله)، فهذا هو العدل مع من تكره من الناس، ممن يحملون لهم (الشنآن). والشنآن هو: شدة البغض والعداوة. ولكن هذا لا يجوز أن يحمل المؤمنين على الظلم، فإن الله لا يحب الظالمين، ولا يهديهم، ولن يفلحوا أبدا، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
    وقد طبق المسلمون هذا العدل مع الشعوب كلها، في عصر النبوة، وفي العصور الراشدة، وفي القرون الأولى ـ خير القرون ـ بصفة عامة، ووجدنا عمر بن الخطاب يأمر لرجل قبطي مصري بالقصاص من ابن الوالي على مصر: عمرو بن العاص. ويقول لعمرو كلمته التاريخية: يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهمأحرارا؟
    وهذه الكلمة التي قالها عمر على البديهة، أصبحت تفتح بها مواثيق حقوق الإنسان ودساتير الأمم المتقدمة في العصر الحديث.
    ومما يجب التنويه به هنا: أن الإسلام أشعر جماهير الناس، أن العدل فريضة لا تهاون فيها، وأن كل مظلوم سيأخذ حقه ممن ظلمه، فلا غرو أن سافر الرجل من الفسطاط إلى المدينة ـ وهو سفر شاق طويل ـ ليطالب بحقه. وقد كان في عهد الرومان يضرب ويسلب وتنتهك حرماته، فلا يرفع بذلك رأسا، لأنه لا يجد من يشكو إليه، ولو وجده فلن يستمع إليه… وفي عهد علي بن أبي طالب حكم قاضيه شريح لنصراني على أمير المؤمنين، لأنه لم يكن لديه بينة، وهنا لم يملك النصراني، إلا أن يعلن إسلامه على الملأ. ويشهد أن عليا هو صاحب الحق، ويقول: هذه أحكام أنبياء!
    والأمثلة على ذلك كثيرة، والتاريخ حافل بالشواهد.

    4. السلام العالمي:
ومما دعا إليه الإسلام كذلك: السلام بين البشر، بدل الحروب والنزاع.
وربما كان هذا مستغربا لدى بعض الناس، فقد عرفوا أن الإسلام دين الجهاد في سبيل الله، وأن الجهاد في سبيل الله أفضل الأعمال عند الله، وإن الصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر، لا يبلغ ثواب المجاهد في سبيل الله.
وهذا صحيح، ولكن الجهاد في الإسلام إنما فرض للدفاع عن الدعوة إذا اعتدى عليها، أو فتن أهلوها، ولقتال من يقاتل المسلمين، ولإنقاذ المستضعفين في الأرض، وتأديب الناكثين للعهود، المتعدين للحدود، ولم يشرع الجهاد للعدوان، على مسالم برئ لم يؤذ المسلمين، ولم يقاتلهم أو يظاهر عدوهم عليهم.
وهذا واضح في القرآن: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين).
(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين).
والفتنة: تعني اضطهاد الناس وتعذيبهم من أجل عقيدتهم.
(وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون: ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا).
(فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا).
(ألا تقاتلون قوما نكثوا إيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة).
(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم).
وتاريخ الدعوة الإسلامية يثبت أن الإسلام أوصى اتباعه بالصبر على الأذى ثلاثة عشر عاما في مكة، كان يقول لهم: (لكم دينكم ولي دين)، (لي عملي ولكم عملكم)، وهم يقولون له: لنا ديننا وليس لك دينك، ولنا عملنا وليس لك عملك، وصبوا عليه وعلى أصحابه سياط العذاب، واشتدوا عليهم بالأذى في أنفسهم وأهليهم وأموالهم، واضطر الإسلام بعد هذه المدة أن يأذن لأهله بالدفاع عن أنفسهم: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقاتلوا: ربنا الله).
وكانت غزوات وسرايا اضطر المسلمون أن يدخلوها وهم كارهون، كما قال تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
وفي غزوة بدر وصف الله حال المؤمنين بقوله: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون).
لم يكن المسلمون متعطشين للدماء كما يصورهم أعداء الإسلام، بل كانوا مدافعين عن دين أستبيحت حرماته، وطرد أتباعه من وطنهم، وصودرت أموالهم، وغزوا في عقر دارهم، كما في أحد، والخندق. ومع هذا يعقب القرآن على غزوة الخندق فيقول: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال).
فهذا التعليق القرآني (وكفى الله المؤمنين القتال) يبين أن هذه نعمة عظيمة من الله تعالى للمؤمنين: أن رد أعداءهم عنهم ولم يحققوا هدفهم من غزوتهم، وأن الله كفاهم القتال، وأراحهم من تبعاته وآثاره.
وفي غزوة الحديبية يعقب القرآن على ما تم من صلح بين الرسول والمشركين، فينزل فيه (سورة الفتح) وفيها يقول الله: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا)، فيقول الصحابة: أفتح هو يا رسول الله؟ فيقول: نعم.
ويمتن الله على المسلمين بقوله: (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم).
فانظر كيف امتن على المؤمنين بكف أيديهم عن المشركين، كما كف أيدي المشركين عنهم، دلالة على أن السلام في ذاته نعمة يذكرها لهم في معرض الامتنان.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقبح الأسماء حرب ومرة"، فدل على أنه يكره حتى كلمة (حرب)… وقد كان أهل الجاهلية يسمون بذلك أبناءهم، فنبه المسلمين على قبح هذا الاسم، ولا يمكن أن يصدر ذلك من رجل محب للحرب، متعطش للدم، كما يقول الذين لا يعلمون، أو الذين يتبعون أهواءهم.

5. التسامح مع غير المسلمين:
ومن المبادئ والقيم التي دعا إليها الإسلام هنا: التسامح مع غير المسلمين، والتعامل معهم بروح إنسانية عالية، لا تتعصب ولا تحقد على من خالفها.
وهذا مع كل من خالف الإٍسلام من غير المسلمين، ولكن لأهل الكتاب ـ من اليهود والنصارى ـ معاملة خاصة، باعتبارهم أهل دين سماوي في الأصل، وينتسبون جميعا إلى أبي الأنبياء إبراهيم، ولهذا سماهم القرآن (أهل الكتاب) وأباح أكل ذبائحهم، وتزوج نسائهم. كما قال تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم، وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم).
والمصاهرة أحد رابطين أساسيين ربط بهما بين البشر، كما قال تعالى:
(وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا).
كما أن الزواج في نظر القرآن يقوم على دعائم من السكون والمودة والرحمة، كما قال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة).
ومعنى زواج المسلم من كتابية أن يكون أصهاره وأجداد أولاده وجداتهم وأخوالهم وخالاتهم، وأولاد أخوالهم وخالاتهم، وأولاد أخوالهم وخالاتهم من أهل الكتاب، وهؤلاء لهم حقوق صلة الرحم وذوي القربى التي يفرضها الإسلام.
ولا نجد في السماحة مع المخالف في الدين أرحب ولا أعلى من هذا الأفق الذي وجدناه في شريعة الإسلام.
وقد فرق القرآن تفريقا واضحا في المعاملة: بين صنفين من غير المسلمين: صنف (المحاربين) المقاتلين لهم في الدين، الذين شردوهم من ديارهم، وعاونوا على تشريدهم، وصنف آخر مسالم لهم لم يشارك في شيء من هذه الأعمال. وذلك في آيتين كريمتين تعتبران دستورا محكما في تحديد العلاقة بغير المسلمين، يقول تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم.. وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون). والبر هو: الخير، والقسط هو: العدل، وقد نزلت هاتان الآيتان في شأن المشركين الوثنيين، كما دلت على ذلك أسباب نزول السورة. فأهل الكتاب أولى بالبر والقسط من المشركين.
ثم إن المعاهدين صنفان:
(أ) من لهم عهد مؤقت، وهؤلاء يتم إليهم عهدهم إلى مدتهم.
(ب) والثاني من لهم عهد دائم ومؤبد، وهم الذين يسميهم المسلمون "أهل الذمة" بمعنى أن لهم ذمة الله تعالى، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذمة جماعة المسلمين. وهم الذين قال فيهم الفقه الإسلامي: لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، أي في الجملة إلا ما اقتضته طبيعة الاختلاف الديني.
وأهل الذمة يحملون "جنسية دار الإسلام" وبتعبير آخر: هم مواطنون في الدولة الإسلامية.
فليست عبارة "أهل الذمة" عبارة ذم أو تنقيص، كما قد يتوهم بعض الناس! بل هي عبارة توحي بوجوب الرعاية والوفاء، تدينا وامتثالا لشرع الله.
وإذا كان الإخوة المسيحيون يتأذون من هذا المصطلح، فليغير أو يحذف، فإن الله لم يتعبدنا به، وقد حذف سيدنا عمر رضي الله عنه ما هو أهم منه، وهو لفظ "الجزية"، رغم أنه مذكور في القرآن، وذلك استجابة لعرب بني تغلب من النصارى، الذين أنفوا من هذا الاسم، وطلبوا أن يؤخذ منهم ما يؤخذ باسم الصدقة، وإن كان مضاعفا. فوافقهم عمر، ولم ير في ذلك بأسا، وقال: هؤلاء القوم حمقى، رضوا بالمعنى، وأبو الاسم.
وهذا تنبيه من الفاروق على أصل مهم، وهو النظر إلى المقاصد والمعاني، لا إلى الألفاظ والمباني، والاعتبار بالمسميات والمضامين لا بالأسماء والعناوين. ومن هنا نقول: إنه لا ضرورة للتمسك بلفظ "الجزية" الذي يأنف منه إخواننا النصارى في مصر وأمثالهم في البلاد العربية والإسلامية، والذين امتزجوا بالمسلمين، فأصبحوا يكونون نسيجا قوميا واحدا. فيكفي أن يدفعوا "ضريبة" مالية، كما يدفع المسلمون "الزكاة"، وأن يشتركوا بأنفسهم في الدفاع عن الأمة والوطن، كما يشترك إخوانهم من المسلمين.
وقد رأينا الإمام الأوزاعي يقف مع جماعة من أهل الذمة في لبنان ضد الأمير العباسي قريب الخليفة.
وقد رأينا الإمام ابن تيمية يخاطب تيمور لنك في فكاك الأسرى عنده، فيعرض عليه أن يفك أسرى المسلمين وحدهم، فيأبى إلا أن يفرج عن أهل الذمة معهم.

ثم إن التسامح الديني والفكري له درجات ومراتب:
فالدرجة الدنيا من التسامح: أن تدع لمخالفك حرية دينه وعقيدته، ولا تجبره بالقوة على اعتناق دينك أو مذهبك.
والدرجة الوسطى من التسامح: أن تدع له حق الاعتقاد بما يراه من ديانة ومذهب، ثم لا تضيق عليه بترك أمر يعتقد وجوبه أو فعل أمر يعتقد حرمته.
فإذا كان اليهودي يعتقد حرمة العمل يوم السبت، فلا يجوز أن يكلف بعمل في هذا اليوم، لأنه لا يفعله إلا وهو يشعر بمخالفة دينه.
وإذا كان النصراني يعتقد بوجوب الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد، فلا يجوز أن يمنع ذلك في هذا اليوم.
والدرجة التي تعلو هذه في التسامح: ألا تضيق على المخالفين فيما يعتقدون حله في دينهم أو مذهبهم، وإن كنت تعتقد أنه حرام في دينك أو مذهبك.
وهذا ما كان عليه المسلمون مع المخالفين من أهل الذمة، إذ ارتفعوا إلى الدرجة العليا من التسامح.
فقد التزموا احترام كل ما يعتقد غير المسلم أنه حلال في دينه، ووسعوا له في ذلك، ولم يضيقوا عليه بالمنع والتحريم، وكان يمكنهم أن يحرموا ذلك، مراعاة لشريعة الدولة ودينها، ولا يتهموا بكثير من التعصب أو قليل، ذلك لأن الشيء الذي يجله دين من الأديان ليس فرضا على أتباعه أن يفعلوه.
فإن كان دين النصراني يحل له أكل الخنزير، فإنه يستطيع أن يعيش عمره دون أن يأكل الخنزير، وفي لحوم البقر والغنم والطير متسع له.
ومثل ذلك الخمر، فإذا كان بعض الكتب المسيحية قد جاء بإباحتها، أو إباحة القليل منها لإصلاح المعدة، فليس من فرائض المسيحية أن يشرب المسيحي الخمر، بل إن بعض المسيحيين يعتقدون حرمة الخمر في ديانتهم.
فلو أن الإسلام قال للذميين: دعوا شرب الخمر، وأكل الخنازير، مراعاة لشعور إخوانكم المسلمين، لم يكن عليهم في ذلك أي حرج ديني، لأنهم إذا تركوا هذه الأشياء لم يرتكبوا في دينهم منكرا، ولا أخلوا بواجب مقدس، ومع هذا لم يقل الإسلام ذلك، ولم يشأ أن يضيق على غير المسلمين في أمر يعتقدون حله، وقال للمسلمين: اتركوهم وما يدينون!


على أن هناك شيئا آخر لا يدخل في نطاق الحقوق التي تنظمها القوانين، ويلزم بها القضاء، وتشرف على تنفيذها الحكومات.
ذلك هو "روح السماحة" التي تبدو في حسن المعاشرة، ولطف المعاملة، ورعاية الجوار، وسعة المشاعر الإنسانية من البر والرحمة والإحسان، وهي الأمور التي تحتاج إليها الحياة اليومية، ولا يغني فيها قانون ولا قضاء. وهذه روح لا تكاد توجد في غير المجتمع الإسلامي.
تتجلى هذه السماحة في مثل قول القرآن في شأن الوالدين المشركين اللذين يحاولان إخراج ابنهما من التوحيد إلى الشرك: (وصاحبهما في الدنيا معروفا).
وفي ترغيب القرآن في البر والإقساط إلى المخالفين الذين لم يقاتلوا المسلمين في الدين كما في آية الممتحنة.
وفي قول القرآن يصف الأبرار من عباد الله: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) ولم يكن الأسير حين نزلت الآية إلا من المشركين.
وفي قول القرآن يجيب عن شبهة بعض المسلمين في مشروعية الإنفاق على ذويهم وجيرانهم من المشركين المصرين: (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله).
وقد روى محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة ومدون مذهبه: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أهل مكة مالا لما قحطوا ليوزع على فقرائهم، هذا على الرغم مما قاساه من أهل مكة من العنت والأذى هو وأصحابه.
وروى أحمد والشيخان عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قدمت أمي وهي مشركة، في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟! قال: "نعم، صلي أمك".
وتتجلى هذه السماحة كذلك في معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب يهودا كانوا أو نصارى، فقد كان يزورهم ويكرمهم، ويحسن إليهم، ويعود مرضاهم، ويأخذ منهم ويعطيهم.
وذكر ابن إسحاق في السيرة: أن وفد نجران ـ وهم من النصارى ـ لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، دخلوا عليه مسجده بعد العصر، فكانت صلاتهم، فقاموا يصلون مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوهم" فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم.

وأساس النظرة المتسامحة التي تسود المسلمين في معاملة مخالفيهم في الدين يرجع إلى الأفكار والحقائق الناصعة التي غرسها الإسلام في عقول المسلمين وقلوبهم، وأهمها:
1. اعتقاد كل مسلم بكرامة الإنسان، أيا كان دينه أو جنسه أو لونه. قال تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم) وهذه الكرامة المقررة توجب لكل إنسان حق الاحترام والرعاية.
ومن الأمثلة العملية: ما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله: أن جنازة مرت على النبي صلى الله عليه وسلم فقام لها واقفا، فقيل له: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي! فقال: "أليست نفسا"؟! ، بلى ولكل نفس في الإسلام حرمة ومكان، فما أروع الموقف، وما أروع التفسير والتعليل!
2. اعتقاد المسلم أن اختلاف الناس في الدين واقع بمشيئة الله تعالى، الذي منح هذا النوع من خلقه الحرية والاختيار فيما يفعل ويدع: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين).
والمسلم يوقن أن مشيئة الله لا راد لها ولا معقب، كما أنه لا يشاء إلا ما فيه الخير والحكمة، علم الناس ذلك أو جهلوه، ولهذا لا يفكر المسلم يوما أن يجبر الناس ليصيروا كلهم مسلمين، كيف وقد قال الله تعالى لرسوله الكريم:
(ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين).
3. إن المسلم ليس مكلفا أن يحاسب الكافرين على كفرهم، أو يعاقب الضالين على ضلالهم، فهذا ليس إليه، وليس موعده هذه الدنيا، إنما حسابهم إلى الله في يوم الحساب، وجزاؤهم متروك إليه في يوم الدين، قال تعالى: (وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون) وقال يخاطب رسوله في شأن أهل الكتاب: (فلذلك فادع واستقم كما أمرت، ولا تتبع أهواءهم، وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب، وأمرت لأعدل بينكم، الله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا، وإليه المصير).
وبهذا يستريح ضمير المسلم، ولا يجد في نفسه أي أثر للصراع بين اعتقاده بكفر الكافر، وبين مطالبته ببره والإقساط إليه، وإقراره على ما يراه من دين واعتقاد.
4. إيمان المسلم بأن الله يأمر بالعدل، ويحب القسط، ويدعو إلى مكارم الأخلاق، ولو مع المشركين، ويكره الظلم ويعاقب الظالمين، ولو كان الظلم من مسلم لكافر. قال تعالى: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).
وقال صلى الله عليه وسلم: "دعوة المظلوم ـ وإن كان كافرا ـ ليس دونها حجاب".
إن سماحة الإسلام مع غير المسلمين سماحة لم يعرف التاريخ لها مثيلا، وخصوصا إذا كانوا أهل كتاب، وبالأخصب إذا كانوا مواطنين في دار الإسلام، ولا سيما إذا استعربوا وتكلموا بلغة القرآن.

0 التعليقات:

إرسال تعليق