hhhh

4587

2-بناء الأسرة الصالحة


كما هدف الإسلام إلى تكوين الفرد أو الإنسان الصالح، بوصفه اللبنة الأساسية في البنيان الاجتماعي للأمة، هدف كذلك إلى بناء الأسرة الصالحة، التي هي الخلية الأولى والضرورية لقيام المجتمع الصالح.

ولا خلاف أن الزواج ـ الذي يربط بين الرجل والمرأة برباط مقدس ـ هو أساس تكوين الأسرة المنشودة، فلا مكان لقيام أسرة صالحة، أو أسرة حقيقية بغير الزواج، كما شرعه الله تعالى.
عرفت الإنسانية في القديم والحديث أفكارا ومذاهب تعارض فكرة الزواج.
ففي فارس ظهرت قبل الإسلام فلسفة "ماني" الذي يزعم أن العالم ملئ بالشر، ويجب فناؤه، ومنع الزواج أقرب وسيلة إلى المسارعة بفناء العالم.
وفي ظل النصرانية ظهرت "الرهبانية" العنيفة، التي تفر من الحياة، وتلجأ إلى الأديرة، وتحرم الزواج، لأن المرأة فتنة مجسمة، وشيطان في صورة إنسان، والقرب منها خطيئة تلوث الأرواح، وتبعد عن ملكوت السماء.
وفي العصر الحديث وجد في الغرب فلاسفة متشائمون، صبوا جل سخطهم على المرأة، وقالوا: إنها حية تسعى لين مسها، قاتل سمها، والزواج يعطيها فرصة لتتحكم في الرجل، وتثقله بالقيود والتكاليف، فلماذا يضع الرجل ـ باختياره ـ الغل في عنقه، وقد خلق حرا؟
ومن المؤسف أن بعض شبابنا "العصريين" غرتهم هذه الأفكار، فأعرضوا عن الزواج، لما رواءه من مسئوليات وتكاليف وقيود، وهم يريدون أن يعيشوا العمر كله أطفالا يعبثون، لا يحملون عبئا، ولا يتحملون تبعة، فإن غلبتهم الشهوة، ونادتهم الغريزة، ففي مباءات الحرام الخبيث، ما يغنيهم عن طيب الحلال.

أما الإسلام فقد رفض تلك الأفكار المنحرفة، والمذاهب المتشائمة، ولم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم الرهبانية في الإسلام، ونهى عن التبتل (الانقطاع عن الزواج للعبادة) ووجه نداءه إلى الشباب يحثهم على الزواج: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج".
وكان صلى الله عليه وسلم إذا علم من بعض أصحابه نزوعا إلى التبتل، وإغراقا في التزهد والتعبد، نهاهم عن الغلو، وأمرهم بالقصد، وردهم إلى صراط المستقيم، وحكمه الوسط العدل.
روى الشيخان عن أنس قال: "جاء رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا (أخبرتهم زوجاته) كأنهم تقالوها (اعتبروها قليلة) فقالوا: وأين نحن من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر..
قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا..
وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر.
وقال آخر: أنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبدا.
فجاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟.. أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".

(أ) سنة الله في هذا الكون أن لا شيء فيه يستطيع أن يؤدي مهمته وحده، بل خلقه الله محتاجا إلى الاتصال بغيره من نوعه ليكمل به ويكمله، فلا بد أن يتصل الموجب بالسالب في عالم الكهرباء حتى يحدث التيار، وآثاره من الضوء والحرارة والحركة وغيرها، وكذلك لا بد أن يتصل الألكترون بالبريتون في عالم الذرة.
ولا بد من اتصال حبوب التذكير بحبوب التأنيث في عالم النبات حتى ينتج الزرع والشجر، ويخرج الحب والثمر، ولا بد من اتصال الذكر والأنثى في عالم الحيوان حتى يحدث الدر والنسل.
وإلى هذه السنة الكونية العامة أشار القرآن الكريم، فقال تعالى:
(ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون)
(سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون)
واستجابة لهذه السنة شرع الله سبحانه في عالمنا الإنساني لونا رفيعا كريما من الاتصال بين الرجل والمرأة يليق بمكانة الإنسان وكرامته، وهو ما نسميه "الزواج".
لقد أودع الله صدر الرجل حنينا إلى المرأة وأودع صدر المرأة حنينا إلى الرجل، فلا يزال كل منهما يحس بحاجة تناديه فوق المأكل والمشرب، يشعر بفراغ في كيانه النفسي لا يملؤه إلا هذا اللقاء على شرع الله وسنته "الزواج" فيستقر بعد اضطراب، ويطمئن بعد قلق، ويجد كلاهما في صاحبه السكون والمودة والرحمة، تغمر جوانحه، وتضئ جوانب حياته، وهذه آية من آيات الله الكبرى في هذا الوجود، لفتنا إليه الكتاب العزيز: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون).
(ب) وبالزواج يحدث النسل، الذي يمتد به وجود الإنسان، فيطول عمره، ويتصل عمله، بذريته الصالحة من بعده، ولهذا امتن الله على عباده فقال: (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات).
ولهذا دعا نبي الله زكريا ربه فقال: (رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين).
(فهب لي من لدنك وليا، يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا).
ودعا أبو الأنبياء إبراهيم ربه فقال:
(رب هب لي من الصالحين، فبشرناه بغلام حليم).
(الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء)
وذكر القرآن من أوصاف عباد الرحمن:
(والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين).
وبالنسل تنمو الأمة، ويكثر عددها، فتعمر أرضها وتستغل كل طاقاتها، وتقوى على مجابهة أعدائها، ولا شك أن لكثرة العدد قيمة في ميزان القوى العالمية. ومن هنا امتن الله على قوم بالكثرة، فقال على لسان شعيب لقومه: (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم)، وقال صلى الله عليه وسلم: "تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى".
وبالنسل يبقى النوع الإنساني كله، وتستمر حياته على الأرض إلى ما شاء الله من أجل معلوم.
قال تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء).
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا).
(ج) والزواج. من جهة ثالثة ـ تمام الدين للمرء المسلم، به يغض بصره، ويعف نفسه، ويجد متنفسا لشهوته في الحلال، فلا يفكر في الحرام، ولهذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الزواج: "أنه أغض للبصر وأحصن للفرج".
وقال: "من رزقه الله امرأة صالحة، فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الباقي".
والشطر: النصف.
(د) والزواج ليس حفظا للدين فحسب، ولكنه أيضا من مقومات السعادة الدنيوية، التي لا يكرهها الإسلام، بل يحبها لأتباعه، ويوفرها لأبنائه، ليفرغهم لما هو أعظم، من السمو بالنفس، والاتصال بالملأ الأعلى قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة".
وقال: "أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء".
وعن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سعادة ابن آدم: ثلاثة، ومن شقاوة ابن آدم ثلاثة؛ من سعادة ابن آدم: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح، ومن شقاوة ابن آدم: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء".
(هـ) والزواج هو الطريق الوحيد لتكوين الأسرة التي هي نواة المجتمع، وأساس بنائه، ولا يقوم مجتمع إنساني كريم، إلا إذا قامت قبله الأسرة، ففي ظلال الأمومة والأبوة، والبنوة والأخوة، تغرس المشاعر الطيبة والعواطف الخيرة من المحبة والإيثار والعطف والرحمة والتعاون.
(و) وبالزواج تنمو الصلات الاجتماعية، فيضم الإنسان عشيرة إلى عشيرته، وأسرة إلى أسرته، أولئك هم أصهاره وأخوال أولاده وخالاتهم. وبذلك تتسع دائرة الألفة والمودة، والترابط الاجتماعي، فقد جعل الله المصاهرة لحمة كلحمة النسب، قال تعالى: (وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا، وكان ربك قديرا).
(ز) وبالزواج تتاح الفرصة الملائمة التي تكتمل بها شخصية الرجل بتحمله مسئوليته زوجا وأبا، وتكتمل شخصية المرأة بتحمل مسئوليتها زوجة وأما.
إن كثيرا من الرجال يفرون من الزواج، لأنهم ـ كما قلنا ـ يريدون أن يعيشوا عمرهم أطفالا كبارا، دون رباط يربطهم، أو بيت يضمهم، أو تبعة تلقى على كواهلهم. ومثل هؤلاء لا يصلحون للحياة، ولا تصلح بهم الحياة، أما الزواج فإنه رباط وميثاق غليظ، ومسئولية مشتركة بين الرجل والمرأة من أول يوم، قال تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة)، (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم، فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله).
وقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته: فالرجل راع في أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها"، "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت"، "إن الله سائل كل راع عما استرعاه: حفظ أم ضيع"، "إن لزوجك عليك حقا".
(ح) وبالزواج يتفرغ الرجل لإتقان أعماله في خارج البيت، مطمئنا إلى أن في بيته من يدبر أمره، ويحفظ ماله، ويرعى أولاده. وفي هذا ما يعينه على إحسان العمل وزيادة الإنتاج، بخلاف ذلك القلق المضطرب المشغول، الموزع بين عمله وبيته، وبين هم شغله في الخارج وهم مطعمه ومشربه وملبسه في الداخل.
وقديما قال الشاعر:
إذا لم تكن في منزل المرء حرة تدبره، ضاعت مصالح داره!

يعمل الإسلام على إقامة الزواج على ركائز متينة، من التفاهم والتراضي بين الزوجين، وأهل كل منهما، حتى يتم على أساس مكين، لا تزعزعه عواصف الحياة مهما اشتدت. ولهذا يوصى من أول الأمر بوصايا غاية في الأهمية.
* حسن اختيار شريك الحياة:
أول هذه الوصايا: أن يحسن كل واحد منهما اختيار شريك حياته، ولا يكون همهما المظهر البراق وحده، فالمظاهر قد تخدع، والإنسان لا يقوم بحسن مظهره، بل بحسن جوهره. ولهذا حثت الأحاديث النبوية على اختيار (الزوجة الصالحة)، وإيثارها على (الزوجة الغنية) أو (الزوجة الفاتنة الجمال) أو (الزوجة ذات النسب العريق).
والمراد بالزوجة الصالحة: ذات الدين والخلق.
وفي الحديث: "الدنيا متاع وخير متاعها: المرأة الصالحة".
وقال: "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولنسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك".
وفي حديث آخر: "فعليك بذات الدين والخلق تربت يمينك".
وكذلك حث المرأة وأولياءها على اختيار (الزوج الصالح) لا مجرد الزوج ذي المال أو ذي النسب والجاه.
والزوج الصالح: هو ذو الدين والخلق.
وفي الحديث: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض".
* النظر إلى المخطوبة:
ومع هذا لا بد أن يكون كلاهما من حيث الشكل والصورة مقبولا عند صاحبه، وهذا يختلف من شخص لآخر، ولأجل هذا شرع الإسلام النظر قبل الزواج.
وقد قال المغيرة بن شعبة للنبي صلى الله عليه وسلم: خطبت امرأة، فقال: أنظرت إليها؟ قال: لا، قال: "اذهب فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما"، وذلك لأن العين رسول القلب، وهذا النظر قبل الزواج إذا كان معه القبول يفتح قلب كل منهما لصاحبه، ولا بأس أن يراها بغير علمها، حتى لا يجرح مشاعرها لو رآها وهي تعلم، ثم لم تعجبه. وقد قال جابر: كنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها.
ومن حق المرأة أن تنظر إلى الرجل، كما ينظر الرجل إليها، فإنه يعجبها من الرجل ما يعجب الرجل منها.
ولا يكفي أن ينظر إليها فقط، بل لا بد أن يتحدث إليها وتتحدث إليه، ليتعرف كل منهما على ملامح شخصية صاحبه، ولو بصورة مبدئية، والرؤية لا تكشف ذلك، إنما يكشفها الحديث والسؤال والجواب.
ومما يؤسف له أن المسلمين في عصرنا وقعوا بين طرفي الإفراط والتفريط، فهناك من يرفض مجرد الرؤية من الخاطب لابنته، بل بعضهم يرفض أن يراها، حتى بعد العقد عليها، ولا يراها إلا ليلة البناء بها، مع أنها تذهب إلى المدرسة أو الجامعة أو السوق، وتسافر إلى الخارج، ويراها كل الناس ما عدا خاطبها.
وهناك ـ على نقيض هؤلاء ـ من يسمحون للخاطب بالخلوة بالمخطوبة، ولم يعقد عليها بعد، والخروج متأبطا ذراعها إلى الخلوات والنزهات والسينمات.
وإنما يضيع الدين والأخلاق بين الغلاة والمتسيبين!.
* ضرورة رضا الفتاة:
ولا يجوز لأب أن يزوج ابنته ممن يريدها هو، وإن كانت هي لا تريده، بل لا بد أن توافق عليه صراحة أو ضمنا، وذلك بالسكوت إذا غلبها الحياء، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها"، وقد روى البخاري عن خنساء بنت خدام الأنصارية: أن أباها زوجها، وهي ثيب، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحه.
وروى أبو داود عن ابن عباس: أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت أن أباها زوجها، وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا ينبغي للآباء أن يستبدوا بزواج بناتهن، ويضربوا بعواطفهن عرض الحائط. فعن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن عندنا يتيمة، وقد خطبها رجل معدم، ورجل موسر، وهي تهوى المعدم، ونحن نهوى الموسر: فقال صلى الله عليه وسلم: "لم ير للمتحابين مثل النكاح".
وينبغي أن يتم الزواج برضا الأطراف كلها من أسرة المرأة، وأسرة الرجل، لهذا اشترط الفقهاء إذن ولي المرأة بل حضوره العقد، وجعل ذلك بعضهم أمرا مستحبا لا واجبا، ولهم في ذلك أدلة من القرآن والسنة، تبحث في كتب الفقه.
والأولى ألا تتزوج المرأة بغير إذن وليها، حتى لا يلعب بها الزوج بعد ذلك، ويضيع حقوقها ولا تجد من يدافع عنها.
بل الأولى أن تشاور المرأة في زواج ابنتها، كما ورد في الحديث: "آمروا النساء في بناتهن" لأن الأم أعرف بابنتها من أبيها، ولأنها إذا لم توافق على الزواج فقد تنكد عيش زوج ابنتها بعد ذلك.
يقول الأستاذ عبد الحليم أبو شقة رحمه الله في موسوعة تحرير المرأة في عصر الرسالة:
"إن حضور الولي عقد الزواج كما يثبت إقرار العائلة لهذا الزواج، يساعد على تأكيد أن رابطة الزواج لا تقتصر على علاقة حميمة بين شخصين رجل وامرأة، بل هي كذلك صلة وثيقة بين عائلتين أو عشيرتين، وكما يحضر ولي أمر المرأة فيندب حضور والد الرجل فضلا عن أقارب الزوجين حتى يكون هذا الزواج بداية التحام بين العائلتين".
وفي هذا المعنى يقول الإمام محمد عبده:
"لا يخفى أن أحكام الشريعة المقدسة ترشدنا إلى أن المصاهرة نوع من أنواع القرابة، تلتحم بها العائلات المتباعدة في النسب، وتتجدد بها صلات الألفة والاتحاد، فقد حرم الله على الشخص أن يتزوج بأمه أو أنثى من أصولها وفروعها، كما حرم عليه أن يتزوج بأخته أو أنثى من أصول نفسه وفروعه.
وكذلك حرم على زوجته أن تقترن بشيء من أصوله أو فروعه، كأنما أنزل الله كلا من الزوجين منزلة نفس الآخر، حتى أنزل فروع كل منهما وأصوله بالنسبة إلى الآخر منزلة أصوله نفسه وفروعه. فهذه حكمة بالغة أقامها الشرع لنا برهانا واضحا على أن اتصال إحدى العائلتين بالأخرى بطريق المصاهرة، مساو لنفس القرابة النسبية في الأحكام والحقوق والاحترام، وهذا هو الموافق لما عليه طبيعة الاجتماع الإنساني… فمن كانت له ابنة، وهو يميل إليها ميل الوالد إلى ولده، ثم قضت سنة الله في خلقه بأن يقترن بها شخص من الناس، فمقتضى محبة الوالد لابنته أن يطلب لها جميع الخيرات ويود لو بلغت أقصى درجات السعادة، وحيث إن سعادتها يبعد أن تكون بدون سعادة زوجها الذي هي مقترنة به، فمن الواجب عليه أن يميل إلى زوجها ميله إلى نفسها، ويكون عونا له على سعادتها، لتتصل بها سعادة ابنته، وهكذا كل من ينتسب إليها بنوع من القرابة، فعليهم أن يكونوا على طراز من المحبة لزوجها، مثل ما هم عليه بالنسبة إليها".

الزواج عقد وثيق، وشركة مقدسة، حرص الإسلام على أن تدوم وتستقر وتتوطد، ففرض لكل من الزوجين حقوقا، وألزمه واجبات، بحيث إذا التزماها سعاد بحياة زوجية هانئة وارفة الظلال.
وخلاصة هذه الحقوق والواجبات تتركز في كلمة واحدة هي المعاشرة بالمعروف قال تعالى: (وعاشروهن بالمعروف)، وقال: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف)، والمعروف هنا: ما يقره العرف السليم، ويعتاده أهل الاعتدال والاستقامة من الناس، من الصحبة الجميلة، وكف الأذى، بل احتماله من صاحبه، وبذل الحق دون مطل، مع البشر وطلاقة الوجه، ولا يتبعه أذى أو منة. والجميل حقا: أن الآية السابقة جعلت الحقوق والواجبات متبادلة بين الزوجين، فكل حق يقابله واجب.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إني لأحب أن أتزين لامرأتي، كما أحب أن تتزين لي، لقوله تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) وهو فهم دقيق لمفهوم الآية الكريمة.
ولكن الآية الكريمة جعلت للرجال على النساء درجة، فما هذه الدرجة؟ بعض المفسرين ذهب إلى أنها درجة القوامة والمسؤولية عن الأسرة، وهذه المسؤولية توجب على الرجل أعباء أكثر من المرأة. ولهذا نقل القرطبي عن ابن عباس في قوله تعالى: (وللرجال عليهن درجة)، قال: الدرجة إشارة إلى حض الرجل على حسن العشرة، والتوسع للنساء في المال والخلق، أي أنه الأفضل فينبغي أن يتحامل على نفسه. قال ابن عطية: وهذا قول حسن بارع.
واختار الطبري أن أولى الأقوال في تفسير الآية: أن الدرجة التي ذكرها الله تعالى هنا، هي: الصفح من الرجل لامرأته عن بعض الواجب عليها، وإغضاؤه لها عنه، وأداء كل واجب لها عليه، وذلك ليكون للرجل فضل درجة عليها.
وهناك حقوق مشتركة بين الزوجين، مثل الاحترام المتبادل، والتشاور فيما يهم الأسرة، كما قال تعالى في شأن الوالدات المرضعات: (فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما).
ومنها: حقوق المعاشرة الجنسية، فهي حق لكل منهما على صاحبه بالمعروف في حدود الطاقة، كما قال تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن)، وإنما عبر عن هذه العلاقة باللباس، لما توحي به الكلمة من الزينة والستر واللصوق والدفء.
ومنها: حق التعاون في السراء والضراء، على البر والتقوى، فإذا كان ذلك مطلوبا من المسلمين جميعا، فأولى من يطلب منهم ذلك الرجل وامرأته.
ومنها: حق حفظ أسرار الزوجية، فلا يجوز لأحدهما أن يفشي سر صاحبه، ففي ذلك خيانة للأمانة المشتركة.
ومنها: حق التجمل الذي أشار إليه ابن عباس بقوله: أتزين لامرأتي، كما تتزين لي امرأتي.

ومن الحقوق التي تلزم الزوج لزوجته:
1.المهر: وهو خالص حق المرأة، فلا يحل للزوج أن يمطلها به إذا طلبته، أو يسترده منها ـ كله أو بعضه ـ بعد دفعه لها، فإذا تنازلت له عن شيء منه راضية غير مكرهة فلا بأس بأخذه. قال تعالى: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة، فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا).
وإذا رضي الزوج بالزيادة على ما تراضيا عليه فلا حرج في ذلك. قال تعالى: (وآتوهن أجورهن (أي مهورهن) فريضة، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة).
2.النفقة: فالزوجة لا تلزمها نفقة نفسها وإن كانت غنية، وإنما تلزم الزوج، لأنه هو الراعي المسئول عنها، وقد أصبحت تحت رعايته وحمايته، مكلفة بتدبير بيته، والقيام بمطالبه، وتربية ولده.
وتشمل هذه النفقة:
1. الطعام والشراب الكافيان.
2. الكسوة للشتاء والصيف.
3. المسكن الملائم.
4.العلاج إن مرضت.
5. خادم، إن كانت ممن يخدم مثلها عرفا.
6. مؤنسة إن كانت في مكان موحش تخشى فيه على نفسها من عدو أو لص.
والأصل في إيجاب هذه الأشياء: أن تركها ينافي المعاشرة بالمعروف التي أمر الله بها.
وفي الحديث: "اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله… ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف"، والمعروف هو قدر الكفاية التي يعرفها العرف، بحسب قدرة الزوج، ومكانة الزوجة.
قال تعالى: (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما أتاه الله، لا يكلف الله نفسا إلا ما أتاها).
وإذا كان الزوج موسرا ولكنه يقتر على زوجته وولده، وقدرت على الأخذ من ماله، فلها الأخذ منه بغير إذنه، بقدر كفايته وكفاية ولدها منه، لما روى البخاري ومسلم: أن هندا امرأة أبي سفيان قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، فقال صلى الله عليه وسلم: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف".
وإنما رخص لها بأخذ كفايتها بدون إذنه، لأن الحاجة قاضية بذلك، إذ لا غنى عن النفقة ولا قوام إلا بها، وهي تتجدد بتجدد الزمن، فتشق المرافعة بها إلى الحاكم، والمطالبة بها كل يوم. والمرأة إذا نشزت وتمردت على زوجها سقطت نفقتها، لأنها لم تف بحقه عليها، فلم تستحق نفقته.
وإذا عجز الزوج عن الإنفاق على زوجته، وتعذرت عليها النفقة بالاستدانة وغيرها، كان لها الحق في أن تطلب فسخ الزواج، إذ لا حياة بدون نفقة، وقد قال تعالى: (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)، وقد تعذر الإمساك بالمعروف، فتعين التسريح بالإحسان، لحديث: "لا ضرر ولا ضرار"، وإذا أمكنها أن تصبر فهو أولى، لأنه من مكارم الأخلاق.
3. التلطف والمؤانسة: وليست حاجة المرأة من زوجها مادية تقتصر على النفقة والكسرة ونحوها، فحسب، بل لها حاجة نفسية أن يتلطف بها، ويطيب نفسها ويدخل السرور عليها، فهذا من تمام المعاشرة بالمعروف.
  1. ولا يظن أحد أن هذا مما ينافي وقار الرجل ويسقط من هيبته. فقد كان سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم يسابق عائشة زوجه فتسبقه مرة، ويسبقها أخرى ويقول لها: "هذه بتلك".
    "وقالت عائشة: كنت ألعب بالبنات (العرائس أو اللعب) عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، وكان لي صواحب يلعبن معي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل ينقمعن (يستخفين هيبة له) فيسربهن إلي فيلعبن معي"، وقالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا الذي أسأمه، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو".
    "وقد استمع النبي الكريم إلى عائشة وهي تحدث عن النساء الإحدى عشر، وما قالت كل واحدة عن زوجها، وذلك في الحديث المعروف بحديث: "أم الزرع".
    4. صيانة كرامتها:
    وعلى الزوج أن يعرف لزوجته حرمتها ويصون كرامتها، فلا يؤذيها بسب أو قول خارج، ولا يفضي سر ما بينهما أمام الناس، ولا ينتقص أهلها، ولا يتجسس عليها ويتتبع عثراتها، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم المسافر أن يطرق أهله ليلا (عند عودته) يتخونهم أو يطلب عثراتهم، لما في ذلك من سوء الظن، وإفساد المودة.
    ومن حق الزوج أن يغار على زوجته، ولكن دون إفراط، ولئلا يساء الظن بها، وترمى بالشر من أجله، والخير في الوسط، وكل أمر زاد عن حده انقلب إلى ضده، وفي الحديث:
    "إن من الغيرة ما يحب الله، ومن الغيرة ما يبغض الله، فأما الغيرة التي يحب الله، فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير الريبة".
    والريبة: أن يرى على سلوك المرأة قرائن ودلائل تقتضي الشك والارتياب، فلا يجوز أن يسد أذنا من طين وأخرى من عجين، حتى لا يكون (ديوثا).
    5. الصبر والاحتمال:
والمرأة ليست ملاكا ـ كما يتوهم بعض السابحين في الخيال ـ وإنما هي إنسان يحسن ويسيء، ويصيب ويخطئ، وعلى الرجل أن يصبر ويحتمل حفاظا على الحياة الزوجية أن تنهدم.
وفي الحديث: "استوصوا بالنساء خيرا"، "أن المرأة كالضلع (أي لا تخلو من عوج)، إن ذهبت تقيمها كسرتها، وإن استمتعت بها، استمتعت بها وفيها عوج"، ويراد بالعوج في المرأة: غلبة الجانب العاطفي عليها أكثر من الرجل، فلا بد من مداراتها والصبر عليها، استبقاء لدوام العشرة، وإلا فتقويم الضلع لا يكون إلا بكسره، وهو أمر غير مرغوب ولا محمود.
وفي الحديث الآخر: "لا يفرك ـ أي لا يكره ـ مؤمن مؤمنة، إن سخط منها خلقا رضي منها آخر"، وبذلك ينظر إليها نظرة عادلة، يذكر محاسنها، كما يذكر عيوبها، وأي إنسان سلم من العيوب؟!
إن الرجل المسلم حقا هو الذي يغلب الواقع على الخيال، ويحكم العقل في العاطفة، حتى أنه ليضغط على نفسه مع شعوره بالكراهية، لتستمر الحياة الزوجية، استجابة لقول الله تعالى:
(وعاشروهن بالمعروف، فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا).

وللزوج على زوجته حقوق يجب أن ترعاها، لتتم المعاشرة بالمعروف كما أمر الله تعالى، أهمها:
1. الطاعة في المعروف:
وذلك أن كل شركة لا بد لها من رئيس مسئول، والرجل قد رشحته الفطرة، ورشحه ما يدفعه من مهر ونفقة أن يكون هو سيد البيت والمسئول الأول عن الأسرة، فلا عجب أن يكون له حق الطاعة، قال تعالى: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم)، وهذه القوامة والمسئولية هي الدرجة التي ميز بها الرجل عن المرأة: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة).
ويحرم عليها أن تعصي زوجها أو تتركه بغير سبب شرعي، وفي الحديث: "إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع" متفق عليه، وأكد الإسلام حق الزوج في ذلك، فلم يجز لها أن تتطوع بصلاة أو صوم وهو حاضر إلا بإذنه. قال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه" متفق عليه.
2. أن تحفظه في غيبته في نفسها وماله:
قال تعالى: (فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله).
وفي الحديث المتفق عليه: "المرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها".
ومن حفظه في نفسه أن تصون أسراره، ولا تأذن بالدخول في بيته لمن يكره من الناس، وقد ذكر الرسول من صفات الزوجة الصالحة: "إذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله".
ومن حفظه في ماله ألا تبسط يدها بالإنفاق مسرفة مبذرة، ولا بأس أن تتصدق منه بما جرت به العادة، وهما شريكان في مثوبة الله، وفي الحديث: "إذا أنفقت المرأة من بيتها زوجها غير مفسدة، كان لها أجرها، وله مثله بما كسب".
3. أن تعاونه بالمعروف:
وقد ذهب كثير من الأئمة إلى أن المرأة ليس عليها خدمة زوجها في عجن وخبز وطبخ وغسل ونحوه من أمور البيت. وإن كان الأولى لها فعل ما جرت به العادة. ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية أوجب عليها أن تعاونه بالمعروف من مثلها لمثله. وهذا هو مقتضى قوله تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف)، وإن كان التعاون مأمور به في كل حال فهو بين الزوجين أولى وأوكد.
4. تأديبها عند النشوز أو ترك الفرائض:
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة).
وقال: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها).
ومادام الرجل هو سيد البيت المسئول أمام الله وأمام الناس، فمن حقه أن يردعها عن ارتكاب المحرمات، أو إهمال الفرائض، أو التهاون في حقوق الزوجية، حتى لا تتعرض الأسرة للانهيار. ولكن ذلك يتم في إطار المحافظة على إنسانية المرأة وكرامتها.

0 التعليقات:

إرسال تعليق