hhhh

4587

4- التشريع


من مقومات الإسلام الأساسية: التشريع، ونعني به الجانب الذي يضبط سير الحياة الإسلامية بمجموعة من الأحكام الشرعية العملية، التي تنظم علاقة الناس بعضهم ببعض في جوانب الحياة المختلفة، وتبين لهم ماذا يحب الله منهم ولهم وماذا يكره.

ومن المعلوم لدارس الإسلام: أنه لم ينص بالتشريع على كل شيء، بل هناك أشياء بينها وفصل فيها، وأشياء بينها بإجمال، وأشياء سكت عنها ولم يقل فيها شيئا.
وقد روى أبو الدرداء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا، ثم تلا: (وما كان ربك نسيا)"، ومن هنا نجد أن الإسلام ترك قصدا منطقة فراغ من التشريع الملزم، وهي التي سميناها (منطقة العفو) أخذا من هذا الحديث.
وقد بين حديث آخر من أحاديث "الأربعين النووية" الشهيرة: أن ترك هذه المنطقة المسكوت عنها كان رحمة من الله بنا، وتوسعة لنا، وتيسيرا علينا، يقول عليه السلام: " إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء، رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها"، والمستقرئ لهذه المنطقة يجد أنها في المجالات الكثيرة التغير، السريعة التطور، التي تختلف كثيرا باختلاف البيئات والإعصار والأحوال والظروف كالأمور السياسية والعسكرية والإدارية والإجرائية ونحوها.
وهنا نستطيع أن نملأ الفراغ التشريعي ـ الذي تركته لنا النصوص عمدا ـ عن طريق القياس على المنصوص بشروطه، أو الاستحسان عندما لا يجمل القياس، أو الاستصلاح بضوابطه، أو الاستصحاب، أو مراعاة العرف، أو سد الذرائع، أو رعاية المقاصد…الخ.
وأحيانا ينص الإسلام في بعض المجالات، ولكن على وجه كلي، بحيث يضع الأسس والمبادئ، ويرسم الإطار العام، ولكنه يدع التفصيل لاجتهاد المجتهدين، يختارون لأنفسهم ما هو أليق بهم، وبتحقيق مصالحهم في مكانهم وزمانهم وحالهم.
هذا مثل (الشورى) التي نص عليها القرآن والسنة مثل قوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم)، وقوله: (وشاورهم في الأمر) وثبوت مشاورة الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه في وقائع شتى، ولكنه لم يفصل لنا: من هم أهل الشورى؟ أو كيف يختارون؟ ومن يختارهم؟ وإلى متى يظلون هكذا؟ وفيم يتشاورون؟ وهل يؤخذ برأي الأكثرية أو لا؟
لم يلزمنا الشرع في ذلك بصورة معينة، قد تصلح لعصر ولا تصلح لآخر، وتصلح لبلد ولا تصلح لغيره، فلم يشأ أن يجمدنا على حالة، بل ترك لنا السعة والحرية لنجتهد لأنفسنا ونقتبس ـ إن شئنا ـ من غيرنا.

وفي بعض المجالات يفصل التشريع الإسلامي، وذلك حيث يكون الثبات هو الأصل، والتغير لا يحدث إلا قليلا، كما في شؤون الأسرة والمواريث وما يسمونه اليوم (الأحوال الشخصية).
حتى إن القرآن ليفصل في هذه الأمور ما يفصل في غيرها، حتى لا يضل الناس، وتلتبس عليهم الدروب، كما قال تعالى في هذه آخر آية من سورة النساء، وهي متعلقة بالميراث: (يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم)، أي كراهية أن تضلوا فتهلكوا. من رحمة الله: أن ما فصله الإسلام من الأحكام نوعان: نوع فصله بنصوص قطعية الثبوت والدلالة، وهذا قليل، ولكنه في غاية الأهمية، لأنه هو يجمع الأمة على كلمة واحدة، ويجسد وحدتها العملية والسلوكية، بجوار الوحدة العقدية والوجدانية.
ونوع فصله بنصوص ظنية الثبوت أو الدلالة أو ظنيتهما معا، وهذا معظم أحكام الشرع، ففيها مجال لتعدد الأفهام، وتعدد المشارب والاجتهادات.

وللتشريع في الإسلام أهداف سامية، ومقاصد عليا، يحرص الشارع الحكيم على تحقيقها في حياة الناس.
وهذا يدلنا على أن أحكام الشرع معللة ومفهومة ومربوطة بمصالح الخلق، وهذا متفق عليه بين المسلمين كافة، إلا فئة قليلة من أهل الظاهر ومن سلك سبيلهم.
والدليل على هذا آيات لا تحصى من كتاب الله، وأحاديث لا تحصى من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلها تعلل الأوامر والنواهي والأحكام، حتى العبادات نفسها، فالصلاة (تنهى عن الفحشاء والمنكر)، والزكاة تؤخذ من أصحاب المال (تطهرهم وتزكيهم بها)، والصيام كتب على الذين آمنوا (لعلكم تتقون)، والحج قد أذنوا به (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معدودات).
وهذا ـ وغيره كثير ـ يدلنا على أن للشرع حكما ومقاصد فيما شرع يجب أن يبحث عنها، وأن تراعى. ومن هذه المقاصد:
1- أن تقوم المعاملات بين الناس على أساس العدل، الذي قامت به السموات والأرض، فلا تجيز لغني ضد فقير، ولا محاباة لقوي على ضعيف، ولا يفضل عربي على عجمي، ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى.
وهذا العدل هو هدف الرسالات السماوية جميعا، كما قال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط).
2- أن يقوم الإخاء بين الناس، وتمتد جسور الثقة والتفاهم، وتزول أسباب التخاصم والنزاع، وذلك بتحديد الحقوق والواجبات، وتوضيح أركان وشروط المعاملات، ومنع الظلم والغرر والجهالات، وبذلك يعطي كل ذي حق حقه، فتطمئن الأنفس، وتصان الحرمات والدماء والأعراض والأموال، ويستقر التعامل على أساس مكين.
3- المحافظة على مصالح الخلق، بمراتبها الثلاث: الضرورية ـ التي لا يعيش الإنسان بدونها ـ والحاجية ـ التي بدونها يكون الإنسان في حرج وضيق ـ والتحسينية ـ التي بها تكتمل حياة الإنسان وتترفه وتمضي على أفضل المسالك، وأحسن العادات والأحوال.
4- أن يفرغ الناس ـ بعد أن يطمئنوا في معاملاتهم ومبادلاتهم، وسائر علاقاتهم المادية والبشرية ـ لأداء رسالتهم على الأرض: عبادة الله تعالى، وعمارة لأرضه، وقياما بخلافته فيها، ودعوة للعالم إلى رسالته التي جعلها رحمة للعالمين، وهي رسالة غايتها: الحق والخير ومكارم الأخلاق، وسبيلها: الإيمان وعمل الصالحات، والتواصي بالحق وبالصبر. وبهذا ينجو الإنسان ـ فردا ومجتمعا ـ من خسران الدنيا والآخرة. وهذا ما لخصته سورة العصر من كتاب الله في هذه الكلمات الموجزة: (والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).

وأحب أن أبين هنا أمرين مهمين:
أولهما: أن الجانب التشريعي أو القانوني ليس هو كل الإسلام ولا جله، كما يتصور بعض الناس أو يصورون، فالإسلام عقيدة تلائم الفطرة، وعبادة تغذي الروح، وخلق تزكو به النفس، وأدب تجمل به الحياة، وعمل ينفع الناس، ويمكث في الأرض ودعوة لهداية العالم إلى الله، وجهاد في سبيل الحق والخير، وتواص بالصبر والمرحمة. كما أنه ـ في الوقت نفسه ـ تشريع يضبط سير الحياة، وينظم علاقة الإنسان بربه، وعلاقته بأسرته، وعلاقته بمجتمعه، وعلاقته بدولته، وعلاقة دولته به، وعلاقتها بالدول الأخرى مسالمة ومحاربة.
إن الإسلام توجيه وتربية وتكوين للفرد الصالح، وللمجتمع الصالح، قبل أن يكون قانونا وتشريعا.
والأمر الثاني: أن الحدود والقصاص والعقوبات جزء محدود في التشريع الإسلامي الواسع، وآيات الحدود والقصاص في القرآن لا تتجاوز عشر آيات من نحو ستة آلاف آية أو تزيد، كما هو معلوم.
ثم إن العقاب للمنحرفين من الناس، وهؤلاء ليسوا هم الأكثرين، وليسوا هم القاعدة، بل هم الشواذ عن القاعدة.
والإسلام لم يجئ لعلاج المنحرفين أساسا، بل لتوجيه الأسوياء ووقايتهم أن ينحرفوا.
والعقوبة ليست هي العامل الأكبر في معالجة الجريمة في نظر الإسلام، بل الوقاية منها بمنع أسبابها هو العامل الأكبر، فالوقاية دائما خير من العلاج.

فإذا نظرنا إلى جريمة كالزنا نجد أن القرآن الكريم ذكر في شأن عقوبة الحد فيها آية واحدة في مطلع سورة النور، وهي قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر).
ولكن السورة نفسها اشتملت على عشرات الآيات الأخرى التي توجه إلى الوقاية من الجريمة.
وحسبنا قوله تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة)
وقوله سبحانه في تنظيم التزاور وآدابه، واحترام البيوت ورعاية حرماتها: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها، ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون)
ويدخل فيها آداب الاستئذان للخدم والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم: (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات، من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء، ثلاث عورات لكم).
وأهم من ذلك تربية المؤمنين والمؤمنات على خلق العفاف والإحصان، بغض البصر وحفظ الفرج، وذلك في قوله جل شأنه: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم، إن الله خبير بما يصنعون، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن..)
وهنا برز عنصر جديد في الوقاية من الزنا وجرائم الجنس، وهو منع النساء من الظهور بمظهر الإغراء والفتنة للرجال، وإثارة غرائزهم وأخيلتهم، حتى جاء في الآية الكريمة قوله تعالى: (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) ثم تختم الآية بقوله تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعا أية المؤمنون لعلكم تفلحون).
وأهم من ذلك كله الأمر بتزويج الأيامى من الرجال والنساء ومخاطبة المجتمع كله بذلك، باعتباره مسئولا مسئولية تضامنية: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم، أن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله، والله واسع عليم)
ومسئولية المجتمع هنا ـ وعلى رأسه الحكام ـ تتمثل في تيسير أسباب الارتباط الحلال، إلى جوار سد أبواب الحرام، وذلك بإزاحة العوائق المادية والاجتماعية أمام راغبي الزواج، من غلاء المهور، والإسراف في الهدايا والدعوات والولائم والتأثيث، وما يتصل بذلك من شئون..
فليست إقامة الحد هنا هي التي تحل المشكلة، والواقع أن الحد هنا لا يمكن أن يقام بشروط الشرعية إلا في حالة الإقرار في مجلس القضاء، أربع مرات على ما يراه عدد من الأئمة، أو شهادة أربعة شهود عدول برؤية الجريمة رؤية مباشرة أثناء وقوعها، ومن الصعب أن يتاح ذلك. فكأن القصد هنا هو منع المجاهرة بالجريمة. أما من ابتلى بها مستترا فلا يقع تحت طائلة العقاب الدنيوي. وأمره في الآخرة إلى الله سبحانه.
ولهذا نطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية وحدودها، موقنين أن القوانين والعقوبات وحدها لا تصنع المجتمعات، ولا تبنى الأمم، إنما تبنى الأمم وتصنع المجتمعات بالإيمان الصادق والخلق الفاضل، والتوجيه الرشيد، والتربية المستمرة، يسندها تشريع عادل، وقانون محكم، لا يفرق بين سيد ومسود.

وإذا نظرنا إلى جريمة أخرى مثل السرقة، نجد أن القرآن الكريم تحدث عن عقوبتها في آيتين فقط من سورة المائدة، وهما قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله، والله عزيز حكيم، فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه، إن الله غفور رحيم).
وهذه الآية التي أوجبت قطع يد السارق، إنما نزلت في سورة المائدة وهي من أواخر ما نزل من القرآن، أي بعد أن توطدت أركان المجتمع الإسلامي الذي أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وهو مجتمع يقول على العدل والتكافل والأخوة، وأهله كالأسرة الواحدة، بل كالجسد الواحد، أو كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، يأخذ قويه بيد ضعيفه، ويصب غنيه على فقيره، ويتكافل أهله في سرائهم وضرائهم. فليس بمؤمن فيه من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع، وليس بمسلم من يستأثر بالخير دون أخيه، الغني فيه مستخلف في ماله، بل في مال الله عنده، وفي ماله حق معلوم للسائل والمحروم، والزكاة فريضة دينية مالية اجتماعية، تؤخذ من أغنياء المجتمع لترد على فقرائه، هي الركن الثالث من أركان الإسلام، من لم يدفعها طوعا أخذت منه كرها، ومن أبى وكان ذا شوكة أعلنت عليه الحرب حتى يؤديها، ولو كانت عناقا أو عقال بعير، كما فعل الخليفة الأول أبو بكر، الذي أعلن الحرب لانتزاع حقوق الفقراء من براثن الأغنياء.
والزكاة هي أول الحقوق في المال وليست آخرها، ومن كان عنده فضل مال فليعد به على من لا مال له.
لقد نزلت قبل آية حد السرقة عشرات الآيات، بل مئاتها، تأمر بإيتاء الزكاة، وتحض على طعام المسكين، وتدعو إلى الإنفاق في سبيل الله، وتحث على إقامة العدل والقسط بين الناس، وتنهى عن الظلم في كل عصوره وأشكاله، وتحذر من مصاير الظالمين في الدنيا والآخرة.
ولهذا لا يتصور في ظل "التطبيق الإسلامي" الصحيح أن تقطع يد السارق في مجتمع لا يجد العاطل فيه عملا، ولا الجائع خبزا، ولا العريان كساء، ولا المريض علاجا، ولا الأمي مدرسة يتعلم فيها، في حين تلعب فئة قليلة منه بالملايين من الجنيهات أو الدنانير أو الريالات تنثرها يمينا وشمالا، إلا على الفقراء والمتعبين!

من خصائص التشريع في الإسلام أنه تشريع شامل كذلك.
إنه لا يشرع للفرد دون الأسرة، ولا للأسرة دون المجتمع، ولا للمجتمع منعزلا عن غيره من المجتمعات في الأمة المسلمة، ولا للأمة معزولة عن غيرها من أمم الأرض، كتابية كانت أو وثنية.
إن تشريع الإسلام يشمل التشريع للفرد في تعبده وصلته بربه، وهذا ما يفصله قسم "العبادات" في الفقه الإسلامي، وهو ما لا يجد في التشريعات الوضعية.
ويشمل التشريع للفرد في سلوكه الخاص والعام، وهذا يشمل ما يسمى "الحلال والحرام" أو الحظر والإباحة.
ويشمل التشريع ما يتعلق بأحوال الأسرة من زواج وطلاق ونفقات، ورضاع، وميراث، وولاية على النفس والمال ونحوها. وهذا يشمل ما يسمى في عصرنا "الأحوال الشخصية".
ويشمل التشريع للمجتمع في علاقاته المدنية والتجارية، وما يتصل بتبادل الأموال والمنافع، بعوض أو بغير عوض، من البيوع والإجارات، والقروض، والمداينات، والرهن، والحوالة، والكفالة، والضمان وغيرها. مما تضمنته في عصرنا القوانين المدنية والتجارية.
ويشمل التشريع ما يتصل بالجرائم وعقوبتها المقدرة شرعا كالحدود والقصاص، والمتروكة لتقدير أهل الشأن كالتعازير. وهذا يشمل ما يسمى الآن بـ "التشريع الجنائي" أو "الجزائي" وقوانين العقوبات.
ويشمل التشريع الإسلامي ما يتعلق بواجب الحكومة نحو المحكومين، وواجب المحكومين نحو الحكام، وتنظيم الصلة بين الطرفين، مما عنيت به كتب السياسة الشرعية والخراج والأموال، والأحكام السلطانية في الفقه الإسلامي، وتضمنه في عصرنا "التشريع الدستوري" أو "الإداري" و"المالي".
ويشمل التشريع الإسلامي ما ينظم العلاقات الدولية في السلم والحرب بين المسلمين وغيرهم، مما عنيت به كتب "السير" أو "الجهاد" في فقهنا الإسلامي، وما ينظمه في عصرنا "القانون الدولي".
ومن هنا لا توجد ناحية من نواحي الحياة إلا دخل فيها التشريع الإسلامي آمرا أو ناهيا، أو مخبرا.
وحسبنا أن أطول آية نزلت في كتاب الله تعالى، نزلت في تنظيم شأن من الشؤون المدنية، وهو المدانية، وكتابة الدين.
ويبدو شمول التشريع الإسلامي في أمر آخر، أو بعد آخر، وهو النفاذ إلى أعماق المشكلات المختلفة، وما يؤثر فيها، وما يتأثر بها، والنظر إليها نظرة محيطة مستوعبة، مبنية على معرفة النفس الإنسانية، وحقيقة دوافعها وتطلعاتها وأشواقها، ومعرفة الحياة البشرية وتنوع احتياجاتها وتقلباتها، وربط التشريع بالقيم الدينية والأخلاقية، بحيث يكون التشريع في خدمتها وحمايتها، ولا يكون معولا لهدمها.
ومن عرف هذا جيدا، استطاع أن يفهم موقف التشريع الإسلامي وروعته من قضايا كثيرة، كالطلاق وتعدد الزوجات، والميراث، والربا، والحدود، والقصاص، وغيرها. مما أثبتت الدراسات المقارنة، وأثبت الاستقراء التاريخي والواقعي فضل الإسلام فيه، وتفوقه على كل تشريع سابق أو لاحق.
إن عيب البشر الذي هو من لوازم ذواتهم المحدودة أنهم ينظرون إلى الأمور والأشياء من جانب واحد، غافلين عن جانب أو أكثر من جوانبها الأخرى. والحقيقة أنهم لا ذنب لهم في هذا القصور ولا حيلة، لأن النظرة المحيطة الشاملة، التي تستوعب الشيء من جميع جوانبه، وتعرف كل احتياجاته، وتدارك كل احتمالاته وتوقعاته، لا يقدر عليها إلا رب البشر وخالق الكون: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).

ومن خصائص التشريع في الإسلام: الواقعية، فهو لم يغفل الواقع في كل ما أحل وما حرم، ولم يهمل هذا الواقع في كل ما وضع من أنظمة وقوانين للفرد، وللأسرة، وللمجتمع، وللدولة، وللإنسانية.
في التحليل والتحريم:
فمن مظاهر هذه الواقعية في مجال الحلال والحرام، وهو ما يتعلق غالبا بشؤون الفرد، رجلا أو امرأة:
1- أن شريعة الإسلام لم تحرم شيئا يحتاج إليه الإنسان في واقع حياته، كما لم تبح له شيئا يضره في الواقع.
ومن ثم أنكر القرآن تحريم الزينة والطيبات، معلنا إباحتها لبني الإنسان جميعا بشرط القصد، والاعتدال، وعدم الإسراف في استعمالها: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين، قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)؟
2- وراعت الشريعة فطرة البشر في الميل إلى اللهو والترويح عن النفس، فرخصت في أنواع من اللهو كالسباق وألعاب الفروسية وغيرها، إذا لم تقترن بقمار ولا بحرام، ولا تصد عن ذكر الله وعن الصلاة. وخصوصا في المناسبات السارة، كالأعراس والأعياد. وقد غنت جاريتان عند عائشة في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فانتهرهما أبو بكر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد"، وقال يومئذ: " لتعلم اليهود أن في ديننا فسحة… وأني بعثت بحنيفية سمحة"!، وأذن للحبشة أن يلعبوا في مسجده بالحراب، وسمح لزوجته عائشة أن تنظر إليهم حتى اكتفت.
وقد راعت الشريعة فطرة المرأة وواقعها في حب الزينة، وعمق الرغبة في التجمل، فأباحت لها بعض ما حرمت على الرجال كالتحلي بالذهب ولبس الحرير.
3- ومن واقعية الشريعة: أنها قدرت الضرورات ـ التي تعرض الإنسان وتضغط عليه ـ حق قدرها، فرخصت في تناول المحرمات على قدر ما توجب الضرورة. وقرر فقهاء الشريعة: أن الضرورات تبيح المحظورات، استنادا إلى ما جاء في القرآن عند ذكر الأطعمة المحرمة من مثل قوله تعالى: (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه، إن الله غفور رحيم).
4- ومن واقعية الشريعة أنها عرفت ضعف الإنسان أمام كثير من المحرمات، فسدت الباب إليها بالكلية، ولهذا حرمت قليلها وكثيرها، كما في الخمر، لأن القليل يجر الكثير، كما أنها عدت ما يوصل إلى الحرام حراما، سدا للذريعة، وإقرارا بواقع الكثير من البشر، الذين لا يملكون أنفسهم إذا فتح لهم طريق إلى الحرام. ومن هنا كان تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية، إغلاقا لباب قد تهب منه رياح الشر، فلا يستطاع صدها. ومثل ذلك النظر بشهوة إلى الجنس الآخر. فإن العين رسول القلب، والنظرة المشتهية بريد الفتنة، وقديما قال الشاعر:
كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
وحديثا، قال شوقي:
نظرة، فابتسامة، فسلام فكلام، فموعد، فلقاء!
في تشريعات الزواج والأسرة:
5- ومن واقعية الشريعة الإسلامية: أنها راعت قوة الدوافع الجنسية لدى الإنسان فلم تطرحها دبر الأذن، ولم تنظر إليها باستخفاف، ولا باستقذار، كما فعلت بعض الملل والنحل، ولم ترض للإنسان أن يقاد من غرائزه وحدها، كما فعلت بعض الفلسفات… فشرعت إشباع الدافع الجنسي بطريقة نظيفة، تضمن بقاء الإنسان، وكرامة الإنسان، وارتفاع الإنسان عن الحيوان، وذلك بشرعية "نظام الزواج"، وقد أشار القرآن إلى ذلك بعد ما ذكر ما حرم الله من النساء، وما أحله وراء ذلك بشرطه، ثم قال: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم، والله عليم حكيم، والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما، يريد الله أن يخفف عنكم، وخلق الإنسان ضعيفا).
فالمفهوم من وصف الإنسان بالضعف في هذا المقام: ضعفه أمام الغريزة الجنسية.
6- وانطلاقا من هذه النظرة الواقعية للحياة والإنسان، كانت إباحة تعدد الزوجات كما شرعه الإسلام.

7- ومن واقعية الشريعة: أنها عملت بكل قوة على تطهير المجتمع من أسباب الجريمة، وتربية الأفراد على حياة الاستقامة، ولكنها مع هذا لم تكتف بالوازع الأخلاقي، وإن حرصت عليه كل الحرص، ولم تقتصر على التربية وحدها، وإن كانت تراها فريضة وضرورة دينية واجتماعية، ولكن في الناس من لا يرتدع إلا بعقوبة زاجرة، ولا تكفيه الموعظة الحسنة، ولا التوجيه الرشيد، ولهذا كان لا بد من سوط السلطان، بجوار صوت القرآن، حتى جاء عن عثمان رضي الله عنه: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن!
ومن هنا أوجبت الشريعة العقوبات من الحدود والقصاص والتعازير، ولم تذهب إلى ما يذهب إليه الخياليون من الناس الذين ينادون بإلغاء عقوبة الإعدام إشفاقا على القاتل المسكين!! دون أن ينظروا إلى مصيبة المقتول وأهله، وما جر عليهم من ويلات وأحزان، ثم إلى أمن المجتمع كله من ناحية أخرى!! أو الذين يعطلون (حد السرقة) بزعم الرحمة بالمجرم (السارق) الذي لم يرحم نفسه ولا غيره، حيث انتهك الحرمات، وسطا على الأموال، وهدد أمن الجماعة، ولم يبال ـ في سبيل تحقيق مآربه، والحرص على الإفلات من قبضة العدالة ـ أن يسفك دم البرآء وأن يقتل النساء والأطفال!
يقول تعالى في شأن القصاص: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون). وفي شأن السرقة: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله، والله عزيز حكيم).

ومن خصائص التشريع في الإسلام: التيسير ورفع الحرج عن المكلفين. وهذا التيسير روح يسري في جسم الشريعة كلها، كما تسري العصارة في أغصان الشجرة الحية. وهذا التيسير مبني على رعاية ضعف الإنسان، وكثرة أعبائه، وتعدد مشاغله، وضغط الحياة ومتطلباتها عليه. وشارع هذا الدين رؤوف رحيم، لا يريد بعباده عنتا ولا رهقا، إنما يريد لهم الخير والسعادة وصلاح الحال والمآل. في المعاش والمعاد.
كما أن هذا الدين لم يجئ لطبقة خاصة، أو لإقليم محدود، أو لعصر معين، بل جاء عاما لكل الناس، في كل الأرض، وفي كل الأزمان والأجيال، وإن نظاما يتسم بهذا التعميم وهذه السعة، لا بد أن يتجه إلى التيسير والتخفيف، ليتسع لكل الناس، وإن اختلف بهم المكان والزمان والحال.
وهذا ما يحسه يلمسه كل من عرف هذا الدين.
فالقرآن ميسر للذكر، والعقيدة ميسرة للفهم، كما أن الشريعة ميسرة للتنفيذ والتطبيق. ليس فيها تكليف واحد يتجاوز طاقة المكلفين، كيف وقد أعلن القرآن هذه الحقيقة في أكثر من آية، فقال: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)، (لا تكلف نفس إلا وسعها)، (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها)، كما علم المؤمنين أن يدعوا ربهم فيقولون:
(ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به)، وقد ورد في الصحيح: أن الله استجاب لهم.
وقد نفي القرآن كل حرج عن هذه الشريعة، كما نفي عنها العنت والعسر، وأثبت لها التخفيف واليسر. قال تعالى وهو يحدثنا عن رخص الصيام، من الفطر للمريض والمسافر: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).
وجاءت الأحاديث النبوية تؤكد هذا الاتجاه القرآني إلى التيسير نقرأ فيها: "بعثت بحنيفية سمحة".
"إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".
"يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا".
وقد كانت سمة الرسول المميزة له في كتب أهل الكتاب هي سمة الميسر، ورافع الآصار، والأغلال التي أرهقت أهل الأديان السابقة، كما قال تعالى: (يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم).
ومن أدعية القرآن التي علمها للمؤمنين: (ربنا ولا تحمل عليا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا).
ولا غرو أن شرع الإسلام الرخص عند وجود أسبابها. وذلك كالترخيص في التيمم لمن خاف التضرر باستعمال الماء لجرح أو لبرد شديد، ونحو ذلك، لقوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما)، (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة).
وكذلك الترخيص في الصلاة قاعدا لمن تضرر الصلاة قائما، والصلاة بالإيماء مضطجعا، أو مستلقيا لمن تؤذيه الصلاة قاعدا.
ومثل ذلك الترخيص في الإفطار للحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما، وكذلك لمن كان مريضا أو على سفر، ومثله الترخيص للمسافر في القصر والجمع في الصلاة.
وجاء في الحديث: "إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يكره أن تؤتى معصيته".
وأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من شدد على نفسه، وصام في السفر، مع شعوره بشدة المشقة، وحاجته إلى الفطر، فقال في مثله: "ليس من البر الصيام في السفر".
ومن هنا أصبح من القواعد الفقهية الأساسية المقررة لدى المذاهب الإسلامية كافة، هذه القاعدة الجليلة: "المشقة تجلب التيسير". وهي أصل له فروع كثيرة وفيرة في شتى أبواب الفقه. وقد ذكرها العلامة ابن نجيم الحنفي، تفريعا على هذه القاعدة، أو تأكيدا لها، لا يتسع المجال هنا لإثباتها، فليرجع إليها من شاء التوسع والتفصيل.
وهناك أشياء متعددة اعتبرتها الشريعة من أسباب التيسير والتخفيف، منها: المرض، والسفر، والإكراه، والخطأ والنسيان، وعموم البلوى، ولكل منها أحكام فصلتها كتب الشريعة.

ومن تيسير الإسلام على البشر: أنه راعى معهم سنة التدرج فيما يشرعه لهم، إيجابا أو تحريما.
فتجده حين فرض الفرائض كالصلاة والصيام والزكاة، فرضها على مراحل ودرجات حتى انتهت إلى الصور الأخيرة.
فالصلاة فرضت أول ما فرضت ركعتين ركعتين، ثم أقرت في السفر على هذا العدد، وزيدت في الحضر إلى أربع. أعني الظهر والعصر والعشاء.
والصيام فرض أولا على التخيير، من شاء صام ومن شاء أفطر وفدى، أي: أطعم مسكينا عن كل يوم يفطره، كما روى ذلك البخارى عن سلمة بن الأكوع، تفسيرا لقوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، فمن تطوع خيرا فهو خير له، وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون)، ثم أصبح الصيام فرضا لازما لكل صحيح مقيم لا عذر له: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه).
والزكاة فرضت أولا بمكة مطلقة غير محددة ولا مقيدة بنصاب ومقادير وحول، بل تركت لضمائر المؤمنين، وحاجات الجماعة والأفراد، حتى فرضت الزكاة ذات النصب والمقادير في المدينة.
والمحرمات كذلك، لم يأت تحريمها دفعة واحدة، فقد علم الله سبحانه مدى سلطانها على الأنفس، وتغلغلها في الحياة الفردية والاجتماعية.
فليس من الحكمة فطام الناس عنها بأمر مباشر يصدر لهم، إنما الحكمة إعدادهم نفسيا وذهنيا لتقبلها، وأخذهم بقانون التدرج في تحريمها. حتى إذا جاء الأمر الحاسم كانوا سراعا إلى تنفيذه قائلين: سمعنا وأطعنا.
ولعل أوضح مثل معروف في ذلك هو تحريم الخمر على مراحل معروفة في تاريخ التشريع الإسلامي، حتى إذا نزلت الآيات الحاسمة في النهي عنها من سورة المائدة، وفي ختامها: (فهل أنتم منتهون)؟. قال المؤمنون في قوة وتصميم: قد انتهينا يا رب.
ولعل رعاية الإسلام للتدرج، هي التي جعلته يبقى على نظام "الرق"، الذي كان نظاما سائدا في العالم كله عند ظهور الإسلام، وكان إلغاؤه يؤدي إلى زلزلة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فكانت الحكمة في تضييق روافده بل ردمها كلها ما وجد إلى ذلك سبيل، وتوسع مصارفه إلى أقصى حد، فيكون ذلك بمثابة إلغاء الرق بطريق التدرج.
وهذه السنة الإلهية في رعاية التدرج، ينبغي أن تتبع في سياسة الناس، وعندما يراد تطبيق نظام الإسلام في الحياة، واستئناف حياة إسلامية متكاملة.
فإذا أردنا أن نقيم (مجتمعا إسلاميا حقيقيا) فلا نتوهم أن ذلك يتحقق بجرة قلم، أو بقرار يصدر من ملك أو رئيس، أو مجلس قيادة أو برلمان.
إنما يتحقق ذلك بطريق التدرج، أعني بالإعداد والتهيئة الفكرية والنفسية، والأخلاقية والاجتماعية.
وهو نفس المنهاج الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم، لتغيير الحياة الجاهلية إلى حياة إسلامية. فقد ظل ثلاثة عشر عاما في مكة، كانت مهمته فيها تنحصر في تربية الجيل المؤمن الذي يستطيع فيما بعد أن يحمل عبء الدعوة، وتكاليف الجهاد لحمايتها ونشرها في الآفاق.
ولهذا لم تكن المرحلة المكية مرحلة تشريع وتقنين، بل مرحلة تربية وتكوين.
وكان القرآن نفسه فيها يعني ـ قبل كل شيء ـ، بتصحيح العقيدة وتثبيتها، ومد أشعتها في النفس والحياة، أخلاقا وأعمالا صالحة، قبل أن يعنى بالتشريعات والتفصيلات.

0 التعليقات:

إرسال تعليق