hhhh

4587

3-الشمول


"الشمول" من الخصائص التي تميز بها الإسلام عن كل ما عرفه الناس من الأديان والفلسفات والمذاهب، بكل ما تتضمنه كلمة "الشمول" من معان وأبعاد.
إنه شمول يستوعب الزمن كله، ويستوعب الحياة كلها، ويستوعب كيان الإنسان كله.

لقد عبر الشهيد حسن البنا عن أبعاد هذا الشمول في رسالة الإسلام فقال وأجاد:
"إنها الرسالة التي امتدت طولا حتى شملت آباد الزمن".
"وامتدت عرضا حتى انتظمت آفاق الأمم".
"وامتدت عمقا حتى استوعبت شؤون الدنيا والآخرة".

إنها رسالة لكل الأزمنة والأجيال، ليست رسالة موقوتة بعصر معين أو زمن مخصوص، ينتهي أثرها بانتهائه، كما كان الشأن في رسالات الأنبياء السابقين على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد كان كل نبي يبعث لمرحلة زمنية محدودة، حتى إذا ما انقضت بعث الله نبيا آخر.
أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو خاتم النبيين، ورسالته هي رسالة الخلود التي قدر الله بقاءها إلى أن تقوم الساعة، ويطوى بساط هذا العالم فهي تتضمن هداية الله الأخيرة للبشرية، فليس بعد الإسلام شريعة، ولا بعد القرآن كتاب، ولا بعد محمد نبي، ولم يسبق لنبي قبل محمد صلى الله عليه وسلم أن أعلن أن رسالته هي الخاتمة وأن لا نبي بعده، بل بشرت التوراة بمن يأتي بعد موسى، وبشر الإنجيل بمن يأتي بعد المسيح عيسى وهو "الفارقليط" الذي سيبين كل الحق، ولا يتكلم من عند نفسه.
إنها رسالة المستقبل المديد ولا شك، وهي أيضا رسالة الماضي البعيد.
إنها ـ في جوهرها، وأصولها الاعتقادية والأخلاقية ـ رسالة كل نبي أرسل، وكل كتاب أنزل. فالأنبياء جميعا جاءوا بالإسلام، ونادوا بالتوحيد، واجتناب الطاغوت. وهذا ما يقرره القرآن في وضوح وتأكيد.
(وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون).
(ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت).

وإذ كانت هذه الرسالة غير محدودة بعصر ولا جيل، فهي كذلك غير محدودة بمكان ولا بأمة، ولا بشعب ولا بطبقة.
إنها الرسالة الشاملة، التي تخاطب كل الأمم، وكل الأجناس، وكل الشعوب، وكل الطبقات.
إنها ليست رسالة لشعب خاص، يزعم أنه وحده شعب الله المختار! وأن الناس جميعا يجب أن يخضعوا له.
وليست رسالة لإقليم معين، يجب أن يدين له كل أقاليم الأرض، وتجبى إليه ثمراتها وأرزاقها.
وليست رسالة لطبقة معينة، مهمتها أن تسخر الطبقات الأخرى لخدمة مصالحها أو اتباع أهوائها، أو السير في ركابها، سواء أكانت هذه الطبقة المسيطرة من الأقوياء أم الضعفاء، من السادة أم من العبيد، من الأغنياء أم من الفقراء والصعاليك. إنها رسالتهم جميعا، وليست لمصلحة طائفة منهم دون سواها، وليس فهمها، ولا تفسيرها، ولا الدعوة إليها حكرا على طبقة خاصة، كما قد يتوهم كثير من الناس، إنها هداية رب الناس لكل الناس، ورحمة الله لكل عباد الله، وهذا ما وضحه القرآن منذ العهد المكي. تقرأ في ذلك: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا).

وهي كذلك رسالة الإنسان من حيث هو إنسان متكامل.
أنها ليست رسالة لعقل الإنسان دون روحه، ولا لروحه دون جسمه ولا لأفكاره دون عواطفه، ولا عكس ذلك.
إنها رسالة الإنسان كله: روحه وعقله، وجسمه، وضميره، وإرادته ووجدانه، كما نبهنا على ذلك في "خصيصة الإنسانية".

إن الإسلام هو رسالة الإنسان كله، وهو رسالته كذلك في كل مراحل حياته ووجوده، فهذا مظهر آخر من مظاهر الشمول الإسلامي.
إنها هداية الله، تصحب الإنسان أنى اتجه وأنى سار في أطور حياته، إنها تصحبه طفلا، ويافعا وشابا وكهلا وشيخا. وترسم له في كل هذه المراحل المتعاقبة المنهج الأمثل الذي يحبه الله ويرضاه.
فلا عجب أن تجد في الإسلام أحكاما وتعاليم تتعلق بالمولود منذ ساعة ميلاده مثل إماطة الأذى عنه، والتأذين في أذنه، واختيار اسم حسن له، وذبح عقيقة عنه شكرا لله، وغير ذلك مما ضمنه إمام كابن القيم كتابا مستقلا له سماه "تحفة المودود في أحكام المولود".
وبعد ذلك نجد أحكاما تتعلق بالإنسان صبيا وشابا وكهلا وشيخا، فلا توجد مرحلة من حياته إلا وللإسلام فيها توجيه وتشريع.
وأكثر من ذلك أنها تعنى بالإنسان قبل أن يولد، وبالإنسان بعد أن يموت.

ومن معاني الشمول في الإسلام أيضا: أنه رسالة للإنسان في كل مجالات الحياة، وفي كل ميادين النشاط البشري، فلا يدع جانبا من جوانب الحياة الإنسانية إلا كان له فيه موقف: وقد يتمثل في الإقرار والتأييد، أو في التصحيح والتعديل، أو في الإتمام والتكميل، أو في التعبير والتبديل، وقد يتدخل بالإرشاد والتوجيه، أو بالتشريع والتقنين، وقد يسلك سبيل الموعظة الحسنة، وقد يتخذ أسلوب العقوبة الرادعة، كل في موضعه.
المهم هنا أنه لا يدع الإنسان وحده ـ بدون هداية الله ـ ، في أي طريق يسلكه، وفي أي نشاط يقوم به: ماديا كان أو روحيا، فرديا أو اجتماعيا، فكريا أو عمليا، دينيا أو سياسيا، اقتصاديا أو أخلاقيا.
إن الإسلام كما قال المرحوم العقاد ـ هو العقيدة المثلى للإنسان منفردا أو مجتمعا، وعاملا لروحه أو عاملا لجسده، وناظرا إلى دنياه، أو ناظرا إلى آخرته ومسالما أو محاربا، ومعطيا حق نفسه، أو معطيا حق حاكمه وحكومته فلا يكون مسلما، وهو يطلب الآخرة دون الدنيا، ولا يكون مسلما لأنه روح تنكر الجسد، أو لأنه جسد ينكر الروح، أو لأنه يصحب إسلامه في حالة، ويدعه في حالة أخرى ولكنما هو المسلم بعقيدته كلها مجتمعة لديه، في جميع حالاته، سواء تفرد وحده أو جمعته بالناس أواصر الاجتماع

وإذا كان الإسلام هو رسالة الإنسان كله في كل أطواره، ورسالة الحياة كلها، بكل جوانبها ومجالاتها، فلا عجب أن نجد التعاليم الإسلامية كلها تتميز بهذا الشمول والاستيعاب لكل شؤون الحياة والإنسان.
نجد هذا الشمول يتجلى في العقيدة والتصور، ويتجلى في العبادة والتقرب، ويتجلى في الأخلاق والفضائل، ويتجلى في التشريع والتنظيم.

فالعقيدة الإسلامية عقيدة شاملة من أي جانب نظرت إليها. (أ) فهي توصف بالشمول، باعتبار أنها تفسر كل القضايا الكبرى في هذا الوجود. القضايا التي شغلت الفكر الإنساني، ولا تزال تشغله، وتلح عليه بالسؤال، وتتطلب الجواب الحاسم الذي يخرج الإنسان من الضياع والشك والحيرة، وينتشله من متاهات الفلسفات والنحل المتضاربة قديما وحديثا: قضية الألوهية، قضية الكون، قضية الإنسان، قضية النبوة، قضية المصير.
فإذا كانت بعض العقائد تعنى بقضية الإنسان دون قضية الألوهية والتوحيد، أو بقضية الألوهية دون قضية النبوة والرسالة، أو بقضية النبوة دون قضية الجزاء الأخروي، فإن
عقيدة الإسلام قد عنيت بهذه القضايا كلها، وقالت كلمتها فيها، بشمول واضح، ووضوح شامل.
(ب) وتوصف العقيدة الإسلامية بالشمول كذلك، لأنها لا تجزئ الإنسان بين إلهين اثنين: إله الخير والنور، وإله الشر والظلمة، كما كان في المجوسية، أو بين الله والشيطان الذي سمي في الأناجيل باسم "رئيس هذا العالم"، واسم "إله هذا الدهر"، وانقسم العالم بينه وبين الله، فله مملكة الدنيا، ولله ملكوت السماوات، فيوشك أن يكون عمله في نظر المسيحية مضارعا لعمل "أهريمان" إله الظلام في المجوسية"‍!
(ج) توصف العقيدة الإسلامية بالشمول من ناحية أخرى، وهي: أنها لا تعتمد في ثبوتها على الوجدان، أو الشعور وحده، كما هو شأن الفلسفات الإشراقية والمذاهب الصوفية، وكما هو شأن المسيحية التي ترفض تدخل العقل في العقيدة رفضا باتا، بحيث لا تؤخذ إلا بالتسليم المطلق، على حد قولهم: اعتقد وأنت أعمى.
وهي كذلك لا تعتمد على العقل وحده، كما هو الشأن جل الفلسفات البشرية التي تتخذ
العقل وسيلتها الفذة في معرفة الله وحل ألغاز الوجود.
وإنما تعتمد على الفكر والشعور معا، أو العقل والقلب جميعا، باعتبارهما أداتين متكاملتين من أدوات المعرفة الإنسانية، والوعي الإنساني.
إن الإيمان الإسلامي الصحيح هو الذي ينبعث من ضياء العقل وحرارة القلب، وبذلك يؤدي دوره ويؤتي أكله في الحياة.
(د) وتوصف العقيدة الإسلامية بالشمول أيضا، لأنها عقيدة لا تقبل التجزئة، لا بد أن تؤخذ كلها بكل محتوياتها دون إنكار، أو حتى شك في أي جزء منها، فمن آمن بـ 99% من مضمون هذه العقيدة، وكفر بـ 1% لم يعد بذلك مسلما. فالإسلام يقتضي أن يسلم الإنسان قيادة كله لله، ويؤمن بكل ما جاء من عنده.

وتتمثل ظاهرة الشمول الإسلامي في عبادته كما تمثلت في عقيدته.
فالعبادة في الإسلام ـ كما بينا في مقومات الإسلام ـ تستوعب الكيان البشري كله، فالمسلم لا يعبد الله بلسانه فحسب، أو ببدنه فقط، أو بقلبه لا غير، أو بعقله مجردا، أو بحواسه وحدها. بل يعبد الله بهذه كلها: بلسانه ذاكرا داعيا تاليا، وببدنه مصليا صائما مجاهدا، وبقلبه خائفا راجيا محبا متوكلا، وبعقله متفكرا متأملا، وبحواسه كلها مستعملا لها في طاعته سبحانه.
ومعنى آخر للشمول في العبادة، وهي أنها تتسع للحياة كلها، فلا تقتصر على الشعائر التعبدية المعروفة من صلاة وزكاة وصيام وحج، بل تشمل كل حركة وكل عمل ترتقي به الحياة ويسعد به الناس.
فالجهاد في سبيل الله، دفاعا عن الحق، وذودا عن الحرمات، ومنعا للفتنة، وإعلاء لكلمة الله… عبادة لا تعدلها عبادة.
وكل عمل نافع يقوم به المسلم، لخدمة المجتمع، أو مساعدة أفراده.

ويبرز الشمول كذلك في ميدان الأخلاق والفضائل. فالأخلاق الإسلامية ليست هي التي تعرف عند بعض الناس بـ "الأخلاق الدينية" التي تتمثل في أداء الشعائر التعبدية، واجتناب أكل لحم الخنزير وشرب الخمر، ونحو ذلك لا غير، إنها أخلاق تسع الحياة بكل جوانبها، وكافة مجالاتها.
إن الأخلاق في الإسلام لم تدع جانبا من جوانب الحياة الإنسانية: روحية أو جسمية، دينية أو دنيوية، عقلية أو عاطفية، فردية أو اجتماعية، إلا رسمت له المنهج الأمثل للسلوك الرفيع، فما فرقه الناس في مجال الأخلاق باسم الدين وباسم الفلسفة، وباسم العرف أو المجتمع، قد ضمه القانون الأخلاقي في الإسلام في تناسق وتكامل وزاد عليه.

هذا الشمول الذي تميز به الإسلام ـ بحيث استوعب الحياة كلها، والإنسان كله، في كل أطوار حياته، وفي كل مجالات حياته ـ يجب أن يقابله شمول مماثل من جانب التزام المسلمين: أعني الالتزام بهذا الإسلام كله في شموله وعمومه وسعته. فلا يجوز الأخذ بجانب من تعاليمه وأحكامه، وطرح جانب آخر، أو جوانب أخرى منها، قصدا أو إهمالا، لأنها "كل" لا يتجزأ.
وقد عاب القرآن الكريم على بني إسرائيل تجزئتهم أحكام دينهم تبعا لأهوائهم، يأخذون منها ما راق لهم، ويدعون ما لم يرق لهم. فقرعهم الله أشد التقريع على ذلك فقال: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب، وما الله بغافل عما تعملون، أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون).
فلا يجوز في نظر الإسلام أخذ جانب العقيدة والإيمان من تعاليمه، وإغفال جانب العبادة أو الأخلاق، كالذين قالوا: لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة. فإن عمل الصالحات مكمل للإيمان، وسياج له، وثمرة لازمة للإيمان الصادق، كما بين ذلك القرآن والسنة: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليه آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، أولئك المؤمنون حقا).
ولا يجوز في نظر الإسلام العناية بالعبادات والشعائر، وإهمال جانب الأخلاق والفضائل، لأن الفضائل الأخلاقية، من شعب الإيمان الحق، وثمرة للعبادة الصحيحة: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياة شعبة من الإيمان"، (وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)، وفي الصحيح: "آية المنافق ثلاث، وإن صلى وصام زعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان".
ولا يجوز في نظر الإسلام كذلك الاهتمام بالجانب الأخلاقي، وإغفال الجانب التعبدي، فإن الناس إنما خلقوا ليعرفوا الله ويعبدوه: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، وإنما يعبد الله تعالى بما شرع وفرض من شعائر وفرائض اعتبرها رسوله الأركان التي بني عليها الإسلام، وأول خلق يجب أن يتحلى به المسلم هو الوفاء لله بعهده، وشكر نعمته، وأداء أمانته، وذلك بأداء حقه الذي افترضه على عباده من صلاة وزكاة وصيام وحج: (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين).
ولا يجوز في نظر الإسلام الأخذ بكل ما ذكر من عقيدة وعبادة وأخلاق، مع إغفال جانب الشريعة التي نظم الله بها حياة الخلق، وأنزل بها الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، فلا يحل لمن يؤمن بعدل الله تعالى، وكمال علمه وحكمته وبره بخلقه، أن يدع شرع الله عمدا، ليحكم بشرائع البشر الممثلة لقصورهم وأهوائهم. ولهذا حذر الله رسوله ـ وبالتالي كل حاكم من بعده ـ أن يدع: "بعض ما أنزل الله" تأثرا بأهواء الآخرين وفتنتهم، فإن من ترك حكم الله سقط لا محالة في حكم الجاهلية ولا ثالث لهما. قال تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك، فإن تولوا فاعلم إنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم، وإن كثيرا من الناس لفاسقون، أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون).

0 التعليقات:

إرسال تعليق